الاثنين، نوفمبر 29، 2010

التعريب بين الوعي المُفَوَّت و الوعي المطابق

ذ. امحمد طلابي
بقلم : الأستاذ امحمد طلابي
( نقلا عن موقع حركة التوحيد و الإصلاح بتاريخ 31 أكتزبر 2010 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل نهوض حضاري حق ، لأي أمة كانت ، يستوجب توفر خمس أدوات كبرى للإنتاج الحضاري ، و هي : الرسالة و الوطن و الأمة و الدولة و اللسان .
أقصد بالرسالة المشروع الثقافي للنهضة ، و الوطن الإقليم الجغرافي للأمة ، و الأمة أو الشعب ساكنة الإقليم الجغرافي ، و أقصد بالدولة السلطة المركزية المنظمة
للعلاقات بين الأمة و الوطن و بين الأطراف المكونة للأمة . أما اللسان فهو الأداة اللغوية للتواصل بين أطراف الأمة الواحدة . و اللسان أو المسألة اللغوية بالمغرب هي موضوع حديث بصمة هذا العدد من مجلة الفرقان .
لقد عقدت بالمغرب عدة ندوات وطنية و دولية حول المسألة اللغوية ، و حول اللغة العربية و باقي مكونات الخريطة اللغوية بالمغرب . و جل تلك الندوات يشكك في إمكانية اللسان العربي أن يكون لسان حضارة و تنمية إلى جانب كونه لسان عبادة ببلادنا . فتنادت فئة من المثقفين المغاربة ، قليلة العدد بالتأكيد ، إلى ضرورة إبقاء الوظائف العليا للسان بالمغرب في حوزة اللسان الفرنسي أو استبدال اللسان العربي الفصيح باللهجات المحلية أو ما يسمى بالدارجة المغربية . و السؤال المركزي هو هل هذا الوعي اللغوي عند هذه الثلة من المغاربة هو وعي مطابق راشد أم هو وعي مفوَّت مختل ؟ هل هو وعي تقدمي بالمعنى التاريخي الصحيح للكلمة ، أم وعي شقي و رجعي بالمعنى التاريخي الصحيح للكلمة ؟ و هل ظاهرة تطور اللغات في التاريخ و التاريخ الحديث الأوروبي بصفة خاصة قانون عام لتطور لغات كل الحضارات و الأمم أم هو ظاهرة خاصة بتطور اللغات الأوروبية فقط ؟ و هل ميلاد الأمة و القومية هو الأصل في ميلاد اللسان المعياري الجامع في تاريخ المجتمعات قديماً و حديثاً ؟
و هل يمكن لشعوبنا العربية أن تنهض بدون لسان قومها ؟ و ماذا عن طبيعة اللسان القائد للحضارة في عصر العولمة الذي هو عصر التكتلات الكبرى ؟ أليست الدعوة لاستبدال اللسان العربي باللهجات المحلية دعوة للتجزئة و تفتيت المفتت ؟ أليست دعوة خارج العصر و خارج الوعي التاريخي الرشيد ؟ و ماذا عن التصاق بعض الفرانكفونيين بجلد اللسان الفرنسي كلسان قائد للتنمية ببلادنا ؟ و ماذا قدم لنا هذا اللسان من تنمية و ثورة علمية و تكنولوجية ملموسة و هو يهيمن على الوظائف العليا للسان ببلاد المغرب منذ قرن من الزمن ؟

ما قانون تطور اللغات ؟
إن قانون تطور اللغات في تاريخ الحضارات بالأمس و اليوم وغداً ليس على خط واحد بالتأكيد ، ففيه الكثير من المشترك ، و فيه الكثير من الاختلاف ، باختلاف تجارب الأمم و اختلاف الحضارات . لقد كانت اللغات الأوروبية ، كالفرنسية و الألمانية و الإيطالية و غيرها ، في بداية العصر الحديث لهجات محلية في بلدانها لغات دارجة . لكن في هذا العصر بالضبط ولدت أدوات الإنتاج الحضاري الغربي و هي الدولة أو السلطة المركزية و الأمة أو الشعب و الوطن أو الإقليم الجغرافي الموحد و رسالة النهضة و هي الثورة الإنسية و الثورة الفكرية اللبيرالية ، و اللسان أو اللغة المعيارية باعتبارها أداة للنهضة و التنمية . إذن فميلاد اللغات الغربية الحديثة الحاضنة للعلم و التكنولوجية منذ زمان ليس عملية معزولة عن ميلاد و ازدهار أدوات الإنتاج الحضاري الأخرى : الدولة و الأمة و الوطن و الرسالة . فميلاد اللغات الغربية كألسن معيارية هو تعبير عن تجاوز شعوب أوروبا للعصر الإقطاعي الذي تفككت فيه الأوطان و الشعوب إلى إقطاعيات متناثرة و تجزئة قاتلة تسببت في تكور حضاري في أوروبا منذ القرن الخامس الميلادي إلى عصر الثورة الفكرية و السياسية و الصناعية في العصر الحديث . فوحدة الوطن و الشعب و الوحدة السياسية بدل التجزئة الإقطاعية فرضت وحدة اللسان و اللغة ، و بالتالي ضرورة تحول اللغة الدارجة الأقوى إلى لسان وطني مقعَّد للجميع لسان معياري لازم للنهضة و الثورة الرأسمالية الكبرى عند شعوب الغرب في العصر الحديث .
إن وعي الأوروبيين في العصر الحديث بضرورة الخروج من عصر التكور الحضاري ، الذي دام قرونا مظلمة ، إلى عصر التطور و الأنوار فرض عليهم بناء أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة : الدولة و الأمة و الوطن و الرسالة الحاملة للنهضة و اللسان الموحد و الحامل للنهضة و التنمية . و من هنا كان ضروريا تحويل لهجة دارجة إلى لسان مقعّد و لغة معيارية لكل أبناء الوطن الواحد و الأمة الواحدة و السلطة المركزية الواحدة و رسالة النهضة الواحدة . و هو ما شهدناه مع اللسان الفرنسي و الألماني و الإيطالي و الانجليزي و غيره . و هو أمر معقول بمنظور الرؤية التاريخية الارتقائية أو التقدمية بمفهومها التاريخي و ليس بالمفهوم السياسي الدارج اليوم .
هذا القانون التاريخي في تطور الظاهرة اللغوية في الغرب الحديث هو نفسه القانون الذي حكم تطور الظاهرة اللغوية العربية في عصر النبوة و ما قبله و ما بعده في عصر الازدهار الإسلامي الكبير في العصر الوسيط . فاللسان العربي و ما أنتجته كلماته و مفاهيمه من تراث عملاق في التاريخ يعطيه الحق في لقب << اللسان العملاق >> . لكن السر في قوته لسانا قائدا للحضارة في العصر الوسيط ، إضافة إلى كونه لسان عبادة ، هو السر نفسه في قوة الألسن الأوروبية اليوم في الإنتاج الحضاري و على رأسها اللسان الإنجليزي .
لقد ولدت قوة اللغة العربية مع ميلاد أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة في التاريخ الإسلامي كما هو شأن ميلاد اللغات الأوروبية الحديثة كما أسلفنا الذكر . فاللغة العربية الكلاسيكية و العصرية هي في الأصل إحدى اللهجات العربية للجزيرة العربية في القرون الخمسة الأولى للميلاد ؛ هي دارجة قريش بالضبط . لقد كان المجتمع العربي قبيل الإسلام يعيش تكوراً حضارياً كما عاشته أوروبا في العصر الوسيط ، و كان العرب قبل الإسلام مجتمعاً يفتقد لكل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة الخمس : فلم يكونوا أمة موحدة بل كانوا قبائل مفككة ، و لم يكن لهم وطن موحد ، إذ كانوا موزعين بين القبائل و بين الخضوع للاحتلال الروماني أو الفارسي أو الحبشي . و لم تكن لهم سلطة مركزية جامعة لأطراف الجزيرة العربية موطن العرب و العربية الأصلي . و لم تكن لهم رسالة أو مشروع ثقافي لنهضتهم ، و لم تكن اللغة العربية القرشية إلا في بداية تحولها إلى لسان مقعّد يقود باقي اللهجات و الدارجات في الجزيرة العربية . لكن مع هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم للمدينة المنورة ولدت كل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة : فإلى جانب الإسلام رسالة للنهضة المنزل وحيا على قلب محمد صلى الله عليه و سلم ، ولدت بعد الهجرة الأمة ؛ المسلمون و اليهود و غيرهم .. كما جاء في دستور الصحيفة المكتوبة في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ، و الوطن أي الإقليم الجغرافي للمدينة و ما يحيط بها ، و ميلاد السلطة المركزية لهذه الأمة و هذا الوطن ، فلم يعد محمد صلى الله عليه و سلم نبياً و رسولاً فقط ، بل و حاكماً سياسياً للأمة الجديدة . فتوفرت كل الشروط لارتقاء حضاري عظيم للعرب و المسلمين في دار الإسلام الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى حدود فرنساً غرباً . قاد فيها المسلمون الحضارة لأكثر من ثمانية قرون . و قاد فيها اللسان العربي المبين الإنتاج و التواصل الحضاري المادي و المعنوي لقرون ، إلى جانب كونه كان و ما زال لسان عبادة أيضاً . و الخلاصة أن الازدهار العظيم للسان و اللغة العربية( إنجليزية للعصر الوسيط ) ، و ازدهار اللغة الإنجليزية الغربية للعصر الحديث لم يكن لتطور ذاتي داخلي فقط ، في بنية اللغة و قاموسها و مفاهيمها و أسلوبها و حرفها ، بل سر الازدهار اللغوي في اللسانين هو الوجود لأربعة إخوة أشقاء يرعون أختهم اللغة و يسعون لازدهارها هم : الدولة و الأمة و الوطن و الرسالة. لذا فمن يبحث جاداً على لسان يساعد على التنمية الشاملة ببلاد المغرب فعليه أيضاً البحث عن الإخوة الأربعة لهذه اللغة أو اللسان القائد للتنمية و النهضة .

هل الفرنسية و الدارجة المغربية بديل و حل للتنمية بالمغرب ؟
في ندوة بشهر يونيه المنصرم بكلية الطب بالبيضاء أجمع جل المتدخلين على أن اللغة العربية لسان كلاسيكي و لغة ميتة !.. و غير قادرة على مسايرة العصر !.. و أن البديل هو استبدالها بالدارجة المغربية !!..
و أية دارجة فاللهجات متعددة ؟.. لا ندري . و هل اللغة العربية مسؤولة عن تخلفنا العلمي و التكنولوجي ؟ أم أن سيطرة اللسان الفرنسي ببلاد الغرب الإسلامي عامل هام في تخلفنا العلمي و التكنولوجي ؟ أم أن الدعوة لاستبدال اللغة العربية باللهجات المغربية الدارجة غايته المركزية ضمان استمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالبلاد ؟
أتذكر في هذا المقام و المقال تجربتي عضوا في اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم التي تأسست تحت قبة البرلمان سنة 1995 . و أتذكر كوني كنت عضواً في لجنة صياغة المبادئ العشر و منها مبدأ التعريب . و أتذكر ما قاله بنعمور في دفاعه عن اللغة الفرنسية ضداً على التعريب . و أذكر سؤالي له هل سيطرة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالمغرب أنتجت علماً و تكنولوجية و تنمية حقيقية بالمغرب ؟ فبُهِت .
إن دعوتنا للتعريب لا تعني تعريب الحياة العامة كما نادى بذلك الدكتور محمد عابد الجابري سابقاً . إن التعريب بالنسبة لنا هو تحكم اللغة العربية في الوظائف الخمس العليا للسان ، بأن تكون اللغة الرسمية للقطاع العمومي و شبه العمومي و الخصوصي في كل من التعليم و الإعلام و الإدارة و الاقتصاد و البحث العلمي . و نؤمن بمشاركة اللغة العربية باقي اللغات في الوظيفة الخامسة أي البحث العلمي . لكن عند تعميم اكتشافات العلم و الخبرة العلمية المنتجة في المختبرات و البحوث العلمية التقنية و الإنسانية لابد من تعميمها بلسان القوم و هو اللغة العربية و ليس بلسان قوم أخرين ، و إلا فشلنا في تبليغ تلك المعرفة و الخبرة للمجتمع المغربي المنتج ، و بالتالي فشلنا في التنمية الحقة . لقد ظل اللسان الفرنسي يسيطر على جل الوظائف العليا للسان في المغرب لمدة تقارب القرن من الزمن ، منذ 1912 . و مع ذلك لم نتقدم في مجال التنمية بما يكفي لنهضتنا. و السر هو كون تعميم نتاج البحث و الخبرة على المجتمع المغربي المنتج شبه مستحيل لكون الفرنسية ليست لسان المغاربة . و بالمناسبة فعلى المدافعين عن استمرار سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان أن يعرفوا أن نسبة مساهمة اللغة الفرنسية بين باقي اللغات في البحث العلمي العالمي لا تتعدى 2,5 % اليوم .
فمن العبث و من الوعي الشقي العمل على تنمية مجتمع ما و تعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10% من سكانه . أشيروا عليّ بأمة نهضت نهضة حق بدون لسان قومها ما عدا شبه القارة الهندية التي لم تجد عن الإنجليزية بديلاً لغوياً محلياً يجمع كل مكونات الأمة الهندية في لغة قومية واحدة ؟؟.. بل حتى اليهود اليوم أحيوا لغتهم الميتة لتكون لغة الوظائف العليا للسان بينهم . و استفادوا كثيراً من كيان اللغة العربية في تطوير كيانها اللغوي . لقد حكم التاريخ المعاصر في علاقة اللغة بالتنمية الحقة للشعوب بالفشل الذريع للخطاب الفرانكفوني ببلادنا و الداعم بقوة لاستمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف الحيوية للسان في الدولة و المجتمع المغربيين .
هذا الفشل التاريخي الكبير دفع الذئب الفرانكفوني الضاري ، المتعطش لافتراس لغة الضاد ، لغة القرآن و لغة العبادة مهما كلف الأمر ، إلى تغيير إستراتيجيته بدون تغيير الهدف . فاستبدل فروته بفروة (حَمَلٍ) وديع للغاية يزعم أنه لصيق في شعاره بأمه المغرب . فلبس شعار : << الدارجة المغربية المفككة القواعد أفضل ، ألف مرة للتنمية ، من لسان عربي ميت رغم قواعده المكينة >> . قد يحاورني هذا الفرنكفوني ويقول لي : << كما قلتَ فالتنمية لا تتم إلا بلسان القوم ، نحن معك ، لذا ندعو إلى اعتماد لسان المغاربة و هو الأمازيغية و اللهجات العربية الدارجة كبديل لغوي للتنمية الشاملة ببلاد المغرب >> . قول ظاهره رحمة بشعبنا و باطنه عذاب ، صائب بالمنطق الرياضي و خطأ قاتل بمنطق التاريخ و المستقبل ، تقدمي بالمنطق السياسي الدارج ، و رجعي حتى النخاع بمنطق السياسة الراشدة .
فمن حيث المنطق الرياضي المجرد فكل اللغات القائدة في المجتمعات و الشعوب هي في الأصل لهجة محلية اكتسبت صفة اللغة المعيارية و أصبحت بالتالي لغة وطنية متحكمة في الوظائف العليا للسان ، هذا ما حدث للهجة قريش العربية مع الإسلام ، و ما حدث للهجة الفرنسية و غيرها مع عصر الحداثة الغربية . و سيقول غير (العربوفوني) الشرس في المغرب و غيره من الأقطار العربية أن اختيار إحدى اللهجات القطرية و الارتفاع بها إلى درجة اللسان المقعد القائد للتنمية في كل قطر عربي على حدة هو الموقف اللغوي الصائب للتنمية الشاملة ، و غيره لغوٌ و هُراء و غوغاء في التاريخ .
هؤلاء في العمق لا يصدرون في مواقفهم هذه إلا انطلاقاً من النموذج الأوروبي لتطور اللغات في العصر الحديث . فيريدون استنساخه في البيئة العربية الإسلامية بدون الانتباه إلى أن تعدد التجارب الحضارية يفضي إلى تعدد طرق تطور الظاهرة اللغوية في تاريخ البشرية الحديث بالخصوص . فتحالف الكنيسة و الإقطاع أي الرهبان و الفرسان في بداية العصر الوسيط ساهم في تفكك كل أدوات الإنتاج الحضاري التي وفرتها الإمبراطورية الرومانية في التاريخ القديم الأوروبي . لقد تفككت السلطة الرومانية المركزية في القرن الخامس ، و تفكك الوطن الواحد في أوروبا إلى مجموعة أقاليم إقطاعية ينعزل بعضها عن بعض ، و تفكك الشعب الواحد إلى مجموعات سكانية تحولوا إلى أقنان أو عبيد مملوكين للأسياد الإقطاعيين من الفرسان و الرهبان معاً . كما افتقد هذا التحالف بين الكنيسة و الإقطاع إلى أية رسالة للنهضة في العصر الوسيط الأوروبي ، و سقط أيضاً لسان الحضارة و العمران ؛ اللسان اللاتيني . و كانت نتيجة ذلك سقوط أوروبا في عصر سحيق من الانحطاط و الظلمات . و الحداثة هي تجربة ناجحة في القطع مع الماضي الأوروبي الوسيط المظلم . و الغرض من هذه القطيعة هو تمهيد السبل لإعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري الخمس الكبرى : الرسالة ( بصياغة المشروع الثقافي الليبرالي ) ، و وحدة الشعب و الوطن ( السوق ) ، و السلطة المركزية التي كانت موزعة بين الأسياد الذين كانوا حكاماً و قضاة و مشرعين لأقنانهم و ليس لشعوبهم . إذ كانت الشعوب و الأوطان مفككة و مجزأة قبل العصر الحديث ، و وحدة اللسان أو اللغة باعتبارها ركنا من أركان الوحدة القومية و عاملا من عوامل التنمية الشاملة لأوروبا لعصر ما بعد الإقطاع ، لكن عصر العولمة اليوم يؤكد يوماً بعد يوم أننا نتجه نحو عصر ما بعد الحداثة .

أي لسان للتنمية الشاملة في عصر العولمة ؟
يمثل ميلاد القوميات الأوروبية الحديثة و النجاح في بناء وحدة الشعب الواحد و الوطن الواحد و السلطة السياسية الواحدة و بناء اللسان القومي الموحد ، إنجازا كبيرا لفلسفة الحداثة كرسالة للنهضة . و لكن ميلاد القوميات في أوروبا بمنظورنا التاريخي اليوم و باستبصارنا للمستقبل غداً هو الشكل الجنيني لعصر التكتلات . لقد بنت الحداثة القومية باعتبارها في رأيي التكتل القزمي في التاريخ المعاصر .. و الحداثة اليوم كفلسفة و رسالة للنهوض الحضاري تتحول إلى شمعة تحترق من أجل عصر ما بعد الحداثة .
و من الأمارات الكبرى لعصر ما بعد الحداثة اليوم أربع هجرات كبرى تحدث اليوم على صعيد كوكب الأرض كاملاً : بداية هجرة البشرية جمعاء نحو الله أو الصحوة الدينية العالمية ؛ و بداية هجرة الشعوب نحو الحرية السياسية أو الصحوة الديمقراطية العالمية ؛ و بداية هجرة الحضارة المادية من الغرب نحو الشرق ؛ و بداية هجرة الدولة لمجالها القطري والقومي نحو الدولة العابرة للأقطار و القوميات ، أي بداية ميلاد دولة التكتل الجهوي ، و أحسن مثال على ذلك دولة الاتحاد الأوروبي ، فهو البداية الجنينية للدولة العابرة للقوميات و الأمة العابرة لأكثر من 25 شعبا ، و الوطن العابر لأكثر من 25 إقليما أو وطنا في القارة الأوروبية . و الصين كتلة سياسية و بشرية و جغرافية و الهند كذلك ، و شمال القارة الأمريكية و جنوبها يسير نحو التكتل و هكذا . فاحتمال تصدر الصين للاقتصاد العالمي سنة 2030 و احتلال الهند المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة سره أن الفيل و التنين دول كتل بشرية و جغرافية و سياسية عملاقة .
إن اتجاه التطور في القرن 21 ينذرنا بأن لا حياة و لا مستقبل لأقزام الأقطار و الدول و الأمم منذ منتصف هذا القرن . فنحن في عصر العولمة و عصر ما بعد الحداثة أمام ميلاد جديد لأدوات الإنتاج الحضاري الكبرى : ميلاد الدولة العابرة للكيانات السياسية القطرية ، ميلاد الأمة العابرة للشعوب ، ميلاد الإقليم الجغرافي العابر للأوطان ، و لربما ميلاد اللسان اللغوي العابر للألسن . و ميلاد رسالة ثقافية و حضارية جديدة تستجيب لهجرة الأمم و الأفراد نحو الله ، أي تستجيب للرغبة في التدين كسنة تاريخية عميقة اليوم .
كل هذا الحديث سقته لأطرح السؤال على التيار << الدارجي >> أي التيار الداعي إلى استبدال اللسان العربي المقعّد باللغات الدارجة أو اللهجات المحلية بالمغرب الحبيب ؟؟..
فخبراء التنمية الشاملة و علماء الاقتصاد يؤكدون اليوم أن لا نهضة شاملة لكيان تقل كتلته السكانية عن 100 مليون نسمة . و من هنا نفهم قوة الصين و الهند القادمة اليوم و غداً . أليست الدعوة لاستبدال اللغة العربية في الأقطار العربية باللغات المحلية هي دعوة تسير في اتجاه معاكس للتاريخ ؟؟.. اتجاه سينتهي ليس ببناء الدولة القطرية أو الدولة الوطنية ذات السيادة بل سينتهي لا محالة إلى بناء كيانات سياسية ما تحت وطنية فاقدة لأية سيادة لها على صناعة القرار السياسي الوطني المستقل ، كيانات تجزئة لا كيانات تكتلات . باختصار إن تيار << الدارجيين >> و التيار الفرنكفوني تيارا تجزئة بوعي أو بدون وعي . فهما تياران متخلفان و رجعيان بالمعنى السياسي الصحيح لمعنى رجعي . إنه الوعي الشقي بامتياز . و الوعي اللاتاريخي بامتياز ، و المراهقة التاريخية و السياسية بامتياز .
و كما أن عصر العولمة هوعصر بناء الدولة و الأمة و الوطن العابر للقوميات ، فإنه أيضا سيحتاج إلى لسان عابر للهجات و اللغات المحلية و القطرية ، لأن اللسان أحد أدوات الإنتاج الحضاري الضرورية للتنمية الشاملة لأية أمة من الأمم كما أسلفنا . نحن المغاربة باعتبارنا مسلمين و عرب و أمازيغ في حاجة ماسة لبناء تكتل جهوي ضروري للنهضة و التنمية الشاملة للبلاد . في حاجة لبناء دولة عابرة لأقطار الغرب الإسلامي ، و أمة عابرة لشعوب المغرب العربي الإسلامي ، و لسان عابر للهجاته المحلية و القطرية ، باعتبار ذلك من شروط النهضة الحقة في القرن 21 ؛ لسان أصيل في قواعده قادر على إعادة التنسيق المحكم بين كل اللغات الاصطلاحية و اللهجات المحلية لهذا المجال في الغرب الإسلامي . و التنسيق معناه إعادة صياغة ما تنتجه اللغات الاصطلاحية ( لغة الفلسفة و الصيدلة و الحرف و غيرها كثير ... ) من مفاهيم علمية و عامية وفق قواعد اللسان المعياري . فما هي هذه اللغة القادرة على بناء تكتلات جهوية من الخليج إلى المحيط العربيين ؟؟.. إنها لغة كتلة بشرية تتجاوز400 مليون نسمة !.. كتلة تتجاوز الـ 100 مليون بأربع مرات ، و هي العتبة الضرورية للتنمية الشاملة كما أسلفنا الذكر : ... إنها اللغة العربية . فهي لغة التكتلات العملاقة للقرن الواحد والعشرين و ما يليه . إنها لغة التقدم و المستقبل . أما الدعوة للدارجة فهي رجوع لحطام الماضي ؛ فهي التخلف بلا ريب ، فالتعريب في بلاد العرب ، و هي الدائرة الأولى في العالم الإسلامي ضرورة تنموية و ضرورة مستقبلية و ليس حنينا للماضي كما يتوهم أصحاب الوعي المفَوَّت( décalée) . فالتعريب أحد المداخل الكبرى لبناء التكتلات الجهوية و بناء كيان الدولة العابرة للأقطار كبديل راشد للدولة القطرية التي تتآكل سيادتها يوما بعد يوم في عصر العولمة .

أي تعريب نريد لبلاد المغرب ؟
إنطلاقاً من التحليل السابق العلمي الأكاديمي الهادئ ، ندعو حكامنا و الصفوة المثقفة في بلادنا إلى ضرورة الوعي بالمسؤولية التاريخية في اتخاذ الموقف اللغوي المطلوب للإسهام في التنمية الشاملة لشعبنا . و الموقف الحازم الاستراتيجي في هذه المسألة اللغوية هو الدعوة إلى التعريب الراشد المتدرج و الكامل . و الموقف الاستراتيجي الراشد يتطلب المواقف الحازمة التالية :
ـــ أولاً : إن التعريب لا يعني إطلاقاً تعريب الحياة العامة كما زعم البعض . لأن ذلك مستحيل و يتعارض مع السنن التاريخية التي تحكم تطور الظواهر اللغوية . فالدارجة أو اللهجات المحلية أمر قائم و مستمر، و لا يمكن تجاوزه بموقف إرادي محض ، مهما كان عزم أولي أمرنا . لكن التعريب المطلوب هو ممارسة اللغة العربية للوظائف العليا للسان في القطاع العام و شبه العام و القطاع الخاص . تكون اللغة العربية في هذه القطاعات الثلاثة هي لغة التواصل الكتابي و الشفوي في الإدارة و الاقتصاد و التعليم العمومي و الإعلام العمومي . و أن تكون العربية الوسيلة الرسمية لإشاعة و تعميم و تبليغ الخبرة و العلم و منتجات البحث العلمي إلى المجتمع المغربي المنتج . بعبارة صريحة ، علينا الإعلان على أن سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان بالمغرب و بالغرب الإسلامي لم تحدث في وسطنا لا ثورة علمية و لا تكنولوجية ، و لم تحقق التنمية المنشودة ؛ بعبارة أبلغ إن سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف العليا لمدة 100 سنة كانت كارثة على التنمية الحقة . و الأمر مفهوم حتى عند الأقل ذكاء ، فتعميم العلم و الخبرة و مخرجات البحث العلمي على شعب لا يتقن اللغة الفرنسية يعني عدم وصول تلك الخبرة و العلم إلى ذلك الشعب المنتج . و بالتالي عدم استفادة المنتجين من مخرجات البحث العلمي و الخبرة ، فلا تنمية بدون لسان القوم ، و لسان قومنا المالك لكل شروط اللسان هو اللغة العربية بلا منازع .
هذا طبعاً لا يعني تغييب باقي الألسن المحلية كاللسان الأمازيغي ، فأنا أفضل لساننا القومي الثاني رغم ما ينقصه من خبرة و تجربة على لسان فرنسا رغم اكتمال بنائه ، لأن الأول لسان قومي يمكن تطويره ليقوم بمهمة التبليغ و التعميم أم اللسان الفرنسي فهو عاجز عن التبليغ لأنه ليس بلسان قومي .
ـــ ثانياً : التعريب لا يعني الانغلاق على اللغات الحية العالمية و منها الإنجليزية و الفرنسية و الألمانية و اليابانية و الصينية و غيرها ، فالحكمة ضالة المسلم ؛ أتذكر هنا زيارة لي للعراق الجريح سنة 1995 برفقة المرحوم الحبيب الفرقاني الأمازيغي الأصل ، المتيم في اللغة العربية إلى أبعد حد ، و في حفل غذاء علمت من وزير الثقافة العراقي أن الثورة العلمية و التكنولوجية بالعراق قطعت أشواطاً هامة . إذ أكد لنا الوزير أن حجم المجتمع العلمي العراقي يقارب 500 ألف عضو، بين عالم و مهندس و تقني . فسألته عن موقع اللغة العربية من هذا التقدم العلمي و التكنولوجي ؛ فأجاب أن اللغة العربية هي لغة الوظائف العليا للسان ، و تشاركها باقي اللغات في البحث العلمي ، لكن تعميم نتاج البحث العلمي على المجتمع العراقي لا يتم إلا باللغة العربية . أتمنى من تيار الفرنكفونية و التيار الدارجي أن يطلعا على مثل هذه التجارب علها تساعدهما في استرجاع بعض من الوعي التاريخي بالمستقبل ، المفقود عندهما الآن مع الأسف الشديد .
ــ ثالثاً : لكن التعريب يعني أيضاً إكمال التعريب العمودي للتعليم بتعريب الجامعة المغربية في العلوم المادية و التقنية ، و التعريب الجاد الأفقي بتعريب الإدارة و الإنتاج في القطاع العام و شبه العام و الخاص ، إن أردنا مردودية فعلية في باب التنمية ببلادنا .
لقد أكدت تجربة تعريب المواد العلمية في التعليم الثانوي الإعدادي و التأهيلي ارتفاع الحصيلة المدرسية للتلاميذ في هذه المواد . لقد ارتفعت نسبة الفهم لمضامين المواد العلمية و حصيلة المعارف لها . و عدم تعريب الجامعة و الاقتصاد يدفع الطلبة و أولياءهم دفعاً نحو المعاهد التي تعنى باللسان الفرنسي ، لأنها اللغة المتداولة في عالم الشغل بالمغرب . لكن لو كانت اللغة العربية هي لغة عالم الشغل لأقبل عليها المجتمع بلا تردد .
إن عدم تعريب الجامعة و محيطها الإنتاجي عقبة كبرى أمام التنمية الشاملة ببلادنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق