السبت، نوفمبر 26، 2011

في الحاجة إلى المختار السوسي


بقلم : الدكتور فؤاد بوعلي
( نقلا عن جريدة التجديد بتاريخ 17 نونبر 2011 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قليل من المغاربة من يتذكر هذا التاريخ : 15 نونبر 1963 ، و الأقل منهم من يخلد ذكرى من فقد فيه : العلامة محمد المختار السوسي . لكن الحاجة إلى الرجل و إلى استلهام مساره العلمي المؤسس لهوية الأمة و خصوصيتها الحضارية في زمن تنازع الهويات تتعاظم كل يوم ، مما يفرض علينا البحث
الدائم في معالم فكر الرجل تخليدا لذكراه ، و بحثا في مساره العلمي و الوطني عن صوى العهد الجديد .
لم تتوقف النخبة المغربية عن قراءة و إعادة قراءة تراث المختار السوسي . و كل قراءة هي موقف . و كل موقف هو جواب عن سؤال واقعي أو فكري . حتى غدت صورته كثيرة كثرة قارئيه : فهو المؤرخ ، و الأديب ، و المثقف ، و الرجعي ، و السياسي ، و المناضل ، و العروبي ، و الإسلامي ، و الأمازيغي ، و الفقيه ، و رجل السلطة .... و كل عنوان هو دليل على صعوبة إخضاعه للتصنيف و الضبط ، و دليل أكبر على أن السوسي قد جمع في شخصيته الكثير من التجاذبات التي عاشتها الساحة الإسلامية و المغربية في القرن العشرين ، و تحمل راهنيتها و نحن في مخاض الربيع العربي . فقد رأى فيه الباحثون موسوعة حضارية تنقلنا إلى زمن الأمجاد و الإبداع العربي الأصيل ، و زعيما قل نظيره في زمن غابت عنه الشخصيات الكاريزمية ، و مؤرخا عرف الثقافة العربية بتراث علمي لمنطقة غابت عنها الشمس لأزمنة عديدة . إذ استطاع "فقيه الأجرومية" كما يلقبه علال الفاسي ، الآتي من أعماق سوس أن يفرض وجوده في مراكز القرار العلمي و السياسي من خلال نضاله الوطني و كتاباته العلمية الغزيرة التي احتل فيها الأدب و التاريخ المكانة المحورية . فلم تكن الكتابة عنده ممارسة احترافية أو مهنية بل ضرورة ثقافية أجبرته على تقديم رؤاه الإصلاحية و تصوراته الاستشرافية لمغرب الاستقلال ، لكن في نفس الآن تحصين الذاكرة من كل اختراق أو تحريف استعماري و تقديم مادة توثيقية لمؤرخي المستقبل . حيث شكلت زيارته للزاوية الدلائية ، بآيت اسحاق ، و وقوفه على ما آلت إليه بعد مجدها القريب من اندثار أخبارها و آثار علمائها ، محطة مفصلية في مساره البحثي ، إذ تأكد لديه أن الخلود للعلماء لا يكون إلا بالتسجيل بالأقلام ، و تذكر سوس موطنه ، فاختمرت في ذهنه فكرة تسجيل أخبار علمائها و أدبائها ، و كانت عزلته القسرية في إلغ بداية هذا المشروع الضخم .
إن الحاجة إلى المختار السوسي ليست حاجة إلى قلم ينضاف إلى الأقلام الموجودة ، أو مؤرخ من حماة الذاكرة الوطنية ، بل إلى فكر مجاهد آمن بهوية الوطن و نظر لوجوده . فقراءة الرجل النهضوية و الإصلاحية لمغرب الاستقلال تأسست على رفض مطلق لمنطق التغريب الاستعماري و استعادة لمبادئ معركة التحرير التي لم يمت المجاهدون و الشهداء من أجل رقعة جغرافية فقط بل من أجل منظومة من القيم بدأت تتلاشى في وطن الاستقلال . لذا فالتأسيس لنهضة المغرب تنطلق من استعادة روح المقاومة و مبادئها . يقول السوسي : " إننا اليوم في فجر نهوضنا ، فيجب علينا أن نتنبه إلى مقوماتنا لنحافظ عليها ، و نسترجع ما كاد الاستعمار يأتي عليه بمحاولاته الشتى " . فالوجود الدائم والمضمر للاستعمار فينا عبر بذوره الفكرية و الثقافية تفرض مراجعة دائمة لمفهوم الاستقلال . " أيكفي أن نقول إننا مستقلون اليوم من غير أن نراجع قائمة مقوماتنا التي كنا بها أمة عظيمة امتدت أجنحتها حتى حلقت على إسبانيا المسلمة و على الجزائر و تونس و ليبية ؟ فبأي شيء استطاع ابن تاشفين المرابطي و عبد المؤمن الموحدي أن يضما هذه الأطراف إلى مراكش ؟ و أن يمزجا بينها حتى صار الجميع قطرا واحدا تتجاوب أرواح كل سكانه تجاوبا لا يزال دويه يطن في آذان التاريخ إلى الآن ؟ " . و بالإسلام و مقوماته الحضارية التي أرخ السوسي لها في منطقة حافظت على قيمه الكبرى ، أسس الوطن وجوده الحضاري على خارطة الأمم من خلال مغناطيس الانجذاب المتمثل في عناصر هويته الثلاثة التي وحدت بين قبائله و طوائفه و انتماءاته المتعددة : اللغة و الدين و الدم . " إن سكان شمال افريقية اليوم لا يزالون مستعدين أتم الاستعداد لهذا التجاوب على لسان اللغة و الدين و الدم ، فهل نجد منا ما كان وجده ابن تاشفين و عبد المؤمن من فورة غيرة دينية و لغوية و دموية ، تتجاذب بها القلوب من كل شمال افريقية ، إذ بما كان أَمْسِ من تلك العظمة التي تجلت من المرابطين و الموحدين تعود اليوم بأعلى و أجلى مما كانت عليه إذ ذاك ؟ " . و الأمل معقود بفهم حقيقي لأسباب الوجود . فالمغرب حسب السوي لم يكن له وجود كدولة إلا بالإسلام الذي وحد أعراقه و قبائله ." أم يظن ظانون أنه يمكن اليوم اجتماع قلوب الأطلسي و الفلالي و السوسي و الفاسي و الشاوي بغير رابطة هذا الدين " . وللدين آليته التواصلية التي تشكل محور المشترك بين أبناء الوطن عربيهم و أمازيغيهم . " فالإنسان بذوقه و بما يستحليه عند التعبير ، لا بما رضعه من ثدي أمهاته ، و اللسان بما تفتح له به المعاني الحلوة لا بما يتهدج به من لغة يرثها لا تعد من نبع و لا غرب ؟ " .
إن الحاجة إلى المختار السوسي ستحمل على الدوام راهنيتها ما دام فكره قد حصر في أبراج البحث الأكاديمي دون أن يستلهم في تقرير مصير الوطن . فمشروع السوسي المقاوم ما زال يحتاج إلى استعادة و قراءة تفصيلية و استحضار حين استشراف المستقبل . و قد تكون البداية هي استكمال مشروعه الفكري التوثيقي ، من خلال مؤسسة بحثية تحمل اسمه وتقارب تراثه العلمي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق