الأربعاء، ديسمبر 07، 2011

أمة بلا مشروع لغوي


بقلم : د. محمد شداد الحراق
( نقلا عن هسبريس بتاريخ 06 دجنبر 2011 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكن لأي مجتمع أن يؤسس منظومة تنموية متقدمة و منتجة في غياب منظومة لغوية قوية و متجذرة و قادرة على حمل مشاريعه و إنجازاته التنموية . لأن اللغة هي السلاح الحضاري و الخزان الفكري و المعمار الثقافي الذي يحدد الخصوصية الثقافية للشعوب ، و هي المحرك النفسي و الوجداني
وراء كل فعل تنموي . فليست اللغة مجرد أدوات وظيفية للتواصل ، و لا هي مجرد أوعية محايدة و جاهزة لحمل الأفكار و التصورات و المشاعر . إنما اللغة جذور و حضارة و تاريخ و رمز للهوية . و عليه فإن السيادة السياسية و الاقتصادية لشعب ما لا يمكن أن تتحقق بدون سيادة ثقافية و لغوية . و كل شعب وجه بوصلته نحو التنمية الاقتصادية و أهمل المسألة اللغوية و استهان بها و اعتبرها ثانوية و لم يمنحها حجمها الحضاري ، فإن مساره في طريق التنمية لا يمكن أن يصل إلى مداه ، و لن يكون بإمكانه تحقيق أهدافه المرجوة ،لأنه يفتقر إلى بناء صرح معماره الحضاري الذي ينبني أساسا على قوائم الخصوصية الثقافية و الهوية اللغوية و الحضارية .
إن الدافع إلى الخوض في هذا الموضوع الحساس و الشائك هو ذلك الغياب الخطير للمسألة اللغوية في البرامج الحزبية و المشاريع التنموية التي يرسم رجال السياسة في ضوئها آفاق التغيير المنشود و ملامح المستقبل الموعود . فالجميع - من سياسيين و مثقفين و اقتصاديين - يغض الطرف و يحجم عن تناول قضية اللغة و ما يتهددها من أخطار و ما يتربص بها من سهام قاتلة . و هي سهام سامة ، إن أصابت هدفها ، فإنها تفتك بالهوية و تعمل على خلخلة الكيان الحضاري برمته . و لعل هذه اللامبالاة هي أشد الأخطار وقعا و أكثرها أثرا على وضعية اللغة . فالمأزق اللغوي لا يغري السياسيين و لا يثير حساسية أصحاب القرار و لا يثير فيهم إرادة التحرك لإيقاف النزيف القاتل و محاصرة الورم الخبيث الذي يتهدد اللغة . بل إننا نجد بعض المثقفين أنفسهم لا يولون هذا الموضوع ما يحتاجه من اهتمام و دراسة ، فتجد بعضهم قد عصفت به رياح الاستلاب ، و استبد به منطق التغريب حتى صار يستهين بلغته و يتحالف مع كل دعوة مشبوهة لتحجيم اللغة العربية و إبعادها عن مسرح الحياة و منعها من ممارسة دورها التاريخي و الحضاري .
ففي الوقت الذي نجد فيه الدول العظمى و الشعوب المتقدمة تعمل جاهدة و بمختلف الوسائل الممكنة لتعزيز وضعية لغاتها في العالم ، و تجتهد في تلقيحها و تخصيبها و جعلها قادرة على الصمود و الانتشار و الذيوع في الآفاق ، و تنفق الأموال الطائلة لأجل إغراء العالم بها وضمان الإقبال عليها ، و هو سلوك نابع من إحساس عميق بدور اللغة في بناء الحضارة و في ممارسة الاختراق النفسي و الفكري للحصون الثقافية ، و نابع من تفكير استراتيجي يمهد للقيادة العالمية و يبسط السبل لتحقيق العولمة السياسية و الاقتصادية و الثقافية ، نجد بعض مثقفينا يسيرون في الاتجاه المعاكس لما يقتضيه دورهم الطبيعي في حماية مكتسباتهم الحضارية و الدفاع عن خصوصيتهم الثقافية . بل إن منهم من يتواطؤ مع غيره ضد لغته و يسهل عملية الاختراق و يمهد الطريق للمشاريع الاستئصالية القادمة مع العولمة الثقافية التي تسعى إلى طمس الهويات و مسخ الخصوصيات و تحطيم الكيان اللغوي للشعوب الأصيلة . فهناك شبه تحالف استراتيجي بين الإرادة الدولية و النخبة المثقفة المتغربة من أجل إزاحة اللغة العربية و محاصرتها و تزهيد الناس فيها . و لتحقيق هذا المقصد يتم إلصاق كل الصفات السلبية و التهم القدحية بهذه اللغة بكونها لغة متجاوزة لم تعد صالحة إلا لحمل التراث و تدوين التاريخ ، و غير قادرة على مواكبة العصر و مستجداته ، و بكونها لا تستجيب لحاجات الإنسان المعاصر. و لكن هذه الجهات لا ترى مانعا في الترويج للغة العامية و تقديمها كبديل للفصحى . و كأن الإشكال سيجد حلا بمجرد تغيير اللسان الفصيح باللسان الدارج . و الحقيقة أن سياسة التشجيع على تداول العامية في الإبداع الفني و الأدبي و عبر وسائل الإعلام و في الحوارات و المحاضرات ، ليست لكون العامية أسهل في التواصل بين الناس و أكثر استجابة لوضعياتهم و حاجاتهم ، و إنما لأن سيادة العامية فيه نوع من تفكيك لبنيان أمة بأسرها ، و تفتيت لمعمارها الحضاري ، و ضرب لأهم مصدر من مصادر مناعتها . فاللغة الفصحى جامعة لأبنائها مهما اختلفت الأقطار و تنوعت الأمصار و مهما ابتعد الزمان و المكان ، و اللغة العربية لغة وحي و دين و حضارة و مشروع كوني ، لغة خالدة ممتدة في تفاصيل الزمان . فكيف يصير الأمر إذا تعصب كل قطر لعاميته و تكلم الخليجي و المغاربي و الشامي والمصري و السوداني و العراقي ... كل بلهجته المحلية ، و كيف يمكن التواصل بين أعضاء الجسد الواحد إذا استئصل الشريان الذي يمدها بالحياة و يربطها بجهاز المناعة . و النتيجة المتوقعة لهذا المشروع هي إعادة إنتاج نفس التراجيديا التي حلت باللغة اللاتينية ، حيث تفرعت عنها لهجات تحولت بحكم التداول إلى لغات رسمية ، بينما تعرضت اللغة الأم للتهميش و الذوبان ، و فرض عليها الغياب القسري . و إذا تحقق ذلك فإن الحل الوحيد المتبقي أمام الشعوب العربية هو اللجوء إلى اللغات الأجنبية للتعلم و الإبداع و التواصل . و هذا هو المشهد الذي يعمل على إخراجه مهندسو العولمة الثقافية بتواطؤ مع النخبة المتغربة و بمساندة الصمت الرهيب لأصحاب القرار السياسي . و هذا يعني أن هناك مشروعا يتم الإعداد له خارجيا و داخليا من أجل هدم صرح اللغة الفصحى لتيسير عملية الغزو الثقافي و لتعبيد الطريق للغزوة الاستعمارية الجديدة التي تستهدف العقول . و لعل السلاح الفتاك الذي يتم استخدامه لتوطين مشروع الثقافة الكونية هو اللغة . فبهذا السلاح يتم استلاب الشعوب و إضعاف مناعتها و إفقادها الثقة في مقومات حضارتها و استدراجها إلى حلبة التبعية و فقدان السيادة الثقافية التي هي بداية لفقدان سيادتها السياسية . فتداول اللغة الغازية إعلان بالهزيمة و استشعار بالدونية و فقدان للهوية . و أنا هنا لا أتحدث عن لغة العلم و المعرفة و إنما عن لغة التواصل اليومي بين أفراد المجتمع مهما تنوعت وضعياتهم و مسؤولياتهم . فحينما يسمح الفرد لنفسه بأن يخاطب ابنه أو شقيقه بلغة مستوردة دخيلة على كيانه الحضاري و التاريخي ، أو يرضى بأن يؤثث لغته أو لهجته بمفردات أجنبية ، فهذا اعتراف ضمني بالعجز و إحساس بالدونية و إساءة للهوية . لأن الشعب الذي يحترم نفسه و أصوله و مقومات هويته يتعصب للغته ، و هو تعصب محمود إذا تعلق الأمر بالتواصل اليومي . و أما تعلم اللغات العالمية باعتبارها أدوات لحمل العلوم و تحصيل المعارف فهذا أمر مطلوب و ضروري لا مراء فيه و لا جدال ، و لا مكان في هذا الزمن لمن يكتفي بلغة واحدة أو يرفض الانفتاح على العالم . و إنما الحديث هنا عن أولئك الذين يرون في استخدام لغة الأجنبي ضربا من التميز و مؤشرا دالا على التمدن و التحضر ، و يحرصون على ترصيع كلامهم بمفردات أعجمية دخيلة ، و كأن الكلام لا يستوي عوده و لا يصل دويه و لا يستساغ طعمه إلا باعتماد التوابل المستوردة . و إذا كنا نرفض هذا السلوك من الفرد العادي ، فإن صدوره من أصحاب المسؤولية السياسية و من حماة الديار و رعاة الكيان الحضاري و رجال الدولة يعد مسا بالأمن اللغوي و الثقافي و الحضاري للأمة . فتلويث اللغة بالدخيل نوع من اغتصاب قداسة الهوية و جرم في حق أم المرجعيات . فكل اختراق للغة الأم فصل من فصول الحرب المعلنة ضد الخصوصية الثقافية في أفق تنحي هذه اللغة و انزوائها و استسلامها للغة الغازية . و لكن الضربات الأقوى التي تتعرض لها اللغة هي التي تكون من ذوي القربى . فأبناء العربية و بناتها هم أول من يدق المسامير في نعشها و أول من يعد العدة لإقبارها و تغييبها من واقع الحياة و من دنيا الناس .
كيف يمكن لأمة عريقة أن تؤسس حضارتها بغير لغتها ؟
و هل حدث في التاريخ أن قامت حضارة عظيمة بلغة مستعارة ؟
و هل استعارة لغة أجنبية اختيار صائب و استراتيجي للمساهمة في هذا السياق العولمي المعاصر ؟
إن التاريخ يعلمنا بأن الحضارات الإنسانية تستفيد من بعضها و تتلاقح فيما بينها ، و لكن تبقى لكل حضارة خصوصيتها التي تميزها عن غيرها . و أهم مرتكزات هذا التميز هو العنصر اللغوي ، لأنه البناء الخلفي لكل مشروع حضاري ، و هو الدعامة النفسية و الأخلاقية لكل أمة تحترم تاريخها و تقدس هويتها . فالانفتاح على الثقافات الإنسانية ضرورة واقعية ، و امتلاك اللغات الإنسانية واجب حضاري يفرض نفسه ، و لكن ليس الممر إلى ذلك على حساب اللغة الأم . فالكوريون و اليابانيون و الصينيون و الروس و غيرهم فرضوا وجودهم في مضمار الحضارة الكونية بانفتاحهم على العالم من جهة ، و بإخلاصهم و وفائهم للغاتهم من جهة ثانية ، بل إن هناك من الشعوب من كانت لغتهم ميتة ، و لكنهم بإرادتهم القوية و احترامهم لتاريخهم و هويتهم ، و بامتلاكهم لمشروع نهضوي متكامل تحتل فيه اللغة رأس الأولويات ، عملوا على إحيائها و جعلها لغة التواصل و الإعلام و الإبداع . و دولة عصرية مثل كوريا الجنوبية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كانت دولة فقيرة لا تختلف عن وضعية بعض الدول العربية كالمغرب على مستوى مؤشر التنمية حسب ما ورد في تقرير البنك الدولي لسنة1992 ، و لكن هذه الأمة المحصنة ثقافيا فرضت وجودها الحضاري متخلصة من عقدة الدونية و معتزة بثقافتها و لغتها ، و مبدعة في منجزاتها الحضارية التي تكتسح الآن العالم بأسره . و هذا النموذج الكوري خير دليل على كون التمدن و التحضر لا يفترض بالضرورة الانصياع التام و الخضوع المطلق لثقافة الغالب المتفوق علميا و تكنولوجيا .
إننا ــ و نحن نسعى إلى بناء أمتنا وصياغة حضارتها ــ في حاجة إلى احترام الذات أولا و إلى الثقة في مكتسباتنا الحضارية و الوفاء لتاريخنا . كما نحن في حاجة إلى الاستفادة من دروس التاريخ الإنساني حتى نؤسس مشاريعنا التنموية على أسس متينة و بوعي ثقافي أصيل و منفتح . فبقاؤنا رهين ببقاء لغتنا حية محترمة في الداخل ، حتى نتمكن من فرض احترامها على الخارج . و علينا أن نعرف بأن الشعوب التي تستهين بلغتها معرضة دوما للزوال . فضياع اللغة يستتبع بالضرورة ضياع أهلها . و هذا ما حدث بالفعل للبابليين و الآشوريين و السومريين و غيرهم من الشعوب القديمة ، فانحسار تداول لغاتهم كان بداية ذوبانهم و انقراضهم . و لهذا وجب على الفاعلين السياسيين و أصحاب القرار و رجال الثقافة أن يعملوا على صياغة مشروع لغوي واضح وجريء يضمن للغة العربية ما تستحقه من احترام وما تحتاجه من تخصيب و توليد و تجديد ، حتى تمارس حضورها الاجتماعي و تقوم بدورها الحضاري . فإذا كنا نملك في الدستور المغربي لغتين رسميتين ، فما بالنا نزهد فيهما معا و نلجأ إلى اللغة الأجنبية ؟ ألم نخض فصولا طويلة من النضال من أجل ترسيم الأمازيغية ؟ فلماذا إذن نخونها كما نخون العربية حينما نلوثهما باللسان الدخيل ؟ لماذا نستهين بذاتنا الثقافية و نقف بباب الغرب أذلاء نستجدي رضاه ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق