الاثنين، ديسمبر 26، 2011

الاحتفاء بالعربية في زمن الربيع العربي


بقلم : الدكتور فؤاد بوعلي
( نقلا عن جريدة التجديد بتاريخ 26 دجنبر 2011 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الثامن عشر من الشهر الجاري ( دجنبر ) خلدت الإنسانية اليوم العالمي للغة العربية . و يأتي الاحتفاء بهذا اليوم تطبيقا لإعلان الأمم المتحدة اعتبار اليوم جزءا من مبادرة تسعى إلى الاحتفال بالتعدد اللغوي و التنوع الثقافي و ترويج المساواة في استخدام اللغات الست الرسمية في الأمم المتحدة ،
إضافة إلى القيمة الاعتبارية لهذه اللغات في التداول السياسي و الإعلامي . و تُبرز قراءة الإعلان المنشور في وثائق الأمم المتحدة الشاغل الرئيس الثاوي وراء الاحتفاء باللغات الست الرسمية في المنظمة الذي يكمن في محاربة الهيمنة اللغوية و منطق القوة اللسانية ، أو لغة الإمبراطورية بتعبير رواد الدراسات بعد الكولونيالية ، الذي يلغي الوجود اللغوي للكيانات التي لا تتمتع بنفوذ سياسي قوي . إذ يُرام من عناوين التعدد و التسامح و التشارك الواردة في الخطاب الأممي مشاركة جميع الدول و الكيانات المختلفة بفعالية في سير المنظمة و تدبير أفضل للقضايا الدولية المختلفة . و هذا متاح حين تعطى للغات نفس القيمة التداولية و الاعتبارية داخليا باستعمالها في التواصل بين الدول ‏الأعضاء و كل الجهات الفاعلة المشاركة في عمل الأمم المتحدة ، و خارجيا من خلال الخطاب الموجه إلى الجمهور على نطاق أوسع .
و يجرنا الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية إلى إبداء الملاحظات التالية :
1 ــ أولى الملاحظات أن الاحتفاء في حد ذاته اعتراف بعالمية العربية لغة رسمية لأرقى منبر سياسي و ثقافي في العالم . إذ تحظى لغة الضاد بمكانة مرموقة بين لغات العالم ؛ فهي اللغة الرسمية للعديد من الدول ، و لغة الدين لكل مسلمي العالم ، و ثالث لغات العالم من حيث سعة انتشارها و سعة مناطقها ، و أكثر اللغات انتشارا في عالم النت حسب تقرير المعرفة 2009 ... كل هذه المقومات منحتها خاصيتين متلازمتين : التعبير عن العمق الحضاري و الهوياتي للانتماء القومي المشترك بين عناصر الأمة ، و آلية ولوج مجتمع المعرفة كما تصرح بذلك تقارير التنمية البشرية المختلفة الصادرة عن المنظمات الإقليمية و الدولية .
2 ــ عزة العربية من عزة أمتها . لقد غدت العربية لغة رسمية في لائحة لغات الأمم المتحدة إبّان قوة النظام العربي . فمن المعلوم أن قرار ترسيم لغة الضاد صدر بعد نحو شهرين من أهم إنجاز عسكري حققته الجيوش العربية ضد الاحتلال الصهيوني في أكتوبر 1973 باعتماد اللغة العربية الرسمية في الأمم المتحدة في 18 ديسمبر من نفس السنة . و يومها ترددت في الساحة الدولية مقولة تبشر أو تتصور أن العرب يمكن أن يشكلوا القوة السادسة في عالم ذلك الزمان . و هكذا يمكن القول أن قوة اللغة بقوة الناطقين بها ، و هوانها بهوانهم . لذا سيتذكر العالم الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1960 و التي سميت «دورة الرؤساء» التي شهدت أول خطاب سياسي باللغة العربية يلقى من فوق منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة على لسان عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة ممثلا لحركة عدم الانحياز .
3 ــ إن اختيار اليوم للاحتفاء بالعربية في الأمم المتحدة كان عفويا عكس التعامل معه اللغات الأخرى . فيوم اللغة الانجليزية 23 أبريل مرتبط بشكسبير ، و يوم الروسية 6 يونيو بشاعرهم الكبير بوشكن ، و الصينية بتاريخ وفاة سانغجيه ، و الفرنسية 20 مارس بيوم الفرانكفونية الدولي ، و الإسبانية يوم 12 أكتوبر بيوم الثقافة الدولي . في حين لم يؤطر الاحتفال بالعربية بأي حدث تاريخي أو ثقافي يؤرخ لحضارتها و يرسم معالم وجودها ، وإنما كان الهدف سياسيا بامتياز ، يتمثل في التأريخ لترسيمها في المنظمة الأممية . و كأن الرسالة الكامنة تتلخص في نقل العربية من الإطار «الدولتي» الخاص إلى الإطار العالمي .
4 ــ إذا كانت استفادة العالم بوجود العربية في منابر التداول الرسمي كبيرة ، فإن لغة الضاد قد استفادت الشيء الكثير . فقد استطاعت تحيين مصطلحاتها و تعبيراتها وفق حاجة المنظمة و فروعها القطاعية ، من خلال دائرتي الترجمة الشفوية و التحريرية التي غدت مرجعا اجتهاديا معتبرا في المعجمية العربية و إطارا لجمع خيرة مترجمي العالم العربي .
و هكذا ، استطاعت العربية أن تصبح لغة عالمية يحتفى بها و يراهن عليها في التداول الرسمي أمميا . لكن في المقابل تتصاعد الحملة ضد تموقعاتها الجديدة ، حتى وجدنا من يطالب من أبناء جلدتنا بإلغاء وجودها ضمن اللغات العالمية الرسمية في الأمم المتحدة لأسباب منها ما هو مالي و منها ما هو تداولي أي عدم استعمال ممثلي الدول العربية للغة العربية في الامم المتحدة في خطبهم و عدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون العربية . و هي تبريرات واهية و مختلقة للتعبير عن أزمة أصحاب القرار في التعامل مع الإشكال اللغوي و العمق الهوياتي . لكن الاحتفاء هذه السنة لم يكن عاديا ، فقد صادف عودة حقيقية للعربية من خلال ملمحين :
ثورات الربيع العربي التي كانت إعلانا عن عودة الروح إلى الجسم العربي بمختلف مكوناته الإثنية و أطيافه الاجتماعية . لذا لم يفاجأ العالم بانتشار العدوى الثورية من قطر عربي إلى آخر، و لم تستطع الالتفافات المختلفة التأثير على مسار الأحداث ، لأن الهم مشترك و المصير واحد . فالربيع الذي بدأ من المغرب العربي متجها نحو المشرق العربي ليس عبثيا في اختياراته و لا في وجهته ، بل هو تعبير صادق عن المشترك الجمعي بين أبناء الأمة الواحدة تتجلى بعض ملامحه في الإحساس الوجداني المعبر عن الانتماء الواحد أو الترابط الشعاراتي بين ثوار الساحات . أو ما سماه حسن حنفي بالتأسيس للوحدة الثورية التي عبر عنها سابقا بأشكال مختلفة مع حركات التحرر القومي . و في هذا الخضم ستظل العربية أحد أهم عناوين المشترك الجمعي ، و عودتها مرهونة بعودة القوة العربية .
مظهر آخر لعودة العربية هو انتصار القطب الهوياتي في الانتخابات الديمقراطية التي شهدتها بعض دول الربيع العربي . ابتداء بتونس و مرورا بالمغرب ، و المحطة الحالية مصر . تتكرر التجارب و تتماثل في صورة واحدة : حين يمنح للشعب هامشا للاختيار يختار هويته و انتماءه العربي . لذا فالرسالة التي قدمتها الشعوب لأصحاب القرار الجدد هي أن زمن الانتماءات البديلة قد ولى ، و أن الاختيار هوياتي حيث العربية جوهر الانتماء . و بتعبير الرئيس التونسي فإن غلبة « التيارات الثورية الديمقراطية التي تريد التجذر في الهوية و إطلاق الحريات » يتيح فتح ملف واقع العربية بكل جرأة و حسم باعتباره « واحدا من أهم ملفات مرحلة التأسيس للعرب الجدد بعد أن ننفض عنا آخر غبار و عار الاستبداد الذي جعل منا أمة عاقرا » .
ستظل العربية عنوان الاستقلال الحقيقي و الثورة الحقيقية لشعوب المنطقة . بل هي عنوان التغيير الديمقراطي المنشود الذي يجعل احتفاء العالم بالعربية له وقعا و معنى في وطننا . فكلما حضرت لغة الضاد في سياستنا و تقوت في برامجنا التربوية و الإعلامية و الإدارية كانت دليلا على انتقالنا نحو الدمقرطة و الحرية . لأن الشعب حينما يُخَير يختار حريته..، و هويته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق