السبت، أغسطس 20، 2011

التشظي الهوياتي خطة استئصالية


بقلم : المهندس محمد الحمداوي
( عن موقع حركة التوحيد و الإصلاح بتاريخ 15 يونيو 2011 )ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما ننبه على ضرورة الحذر من مخططات التشظي الهوياتي ، فإننا نعني بالأساس المخططات الاستئصالية التي تسعى إلى استغلال الغنى و التنوع اللذين يميزان الهوية المغربية ، في إطار الوحدة و الانسجام و التلاحم المجتمعي الذي ينعم به المغرب ، في ظل الدين الإسلامي الذي يشكل عاملا
أساسيا لوحدة المغاربة و اجتماعهم ، بغية تحويل هذا التنوع من عامل ثراء و غنى إلى عامل بلقنة و تشرذم و تشظي ، و هنا نستحضر بالأساس ما تعانيه مجتمعات وشعوب و دول شقيقة أخرى ، من ويلات و مشاكل و أزمات ، بسبب الدخول في متاهات الفتن و البلقنة سواء الطائفية أو المذهبية أو العرقية ، كما نستحضر المخطط الاستعماري من وراء إصدار ظهير 16 ماي 1930 الخاص بالأعراف الأمازيغية في عهد الحماية ، و محاولاته المتكررة و الدؤوبة لإعادة إحيائه و بعثه من جديد ، بصيغ ملتوية .
و حينما نتكلم عن ذلك باعتباره خطة استئصالية يائسة في لحظاتها الأخيرة و المعاكسة لإرادة و حركة الشعوب و التي نتوقع لها الفشل الذريع كما فشلت المحاولات السابقة ، فإننا نستحضر جيدا مخططات الاستئصاليين ليس فقط في حروبهم الشعواء ضد التدين و المتدينين ، و هَوَسِهِم بسياسات تجفيف المنابع ، و إنما كذلك تجاه كل ما له علاقة بالهوية الإسلامية أو الأخلاق و القيم الإسلامية .
و في هذا الإطار نجد أن الاستئصاليين و بعد أن عملوا ما في وسعهم و جهدهم لمحاولة اجتثاث كل ما هو قيمة دينية أو أخلاقية من المجتمع ، معتمدين في ذلك على ركوب الموجة العالمية التي يعيشها الغرب باسم الحداثة ، و مستندين على نظريات كثيرة كنظريات النهايات ، أي نهاية الدين ، و نهاية الايديولوجيا ، و نهاية التاريخ مثلما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ ، حين أعلن انتصار الغرب و تربع الليبرالية و السوق على عرش العالم ، و نهاية الصراع التاريخي الطويل لصالح القيم الغربية ، و كأنه يريد من جميع المنظومات الحضارية الأخرى أن تسلم بأنه لم يعد أمام العالم من خيارسوى أن يأخذ بأيديولوجية الغرب التي غدت وحدها قائمة في الميدان ، و أن أي أيديولوجية أخرى تتجاسر على تقديم بديل للغرب فمصيرها الزوال ، و أي محاولة للمقاومة ما هي إلا محاولة يائسة للوقوف أمام التاريخ .
و انطلاقا من هذه الخلفية الفلسفية ، استغل الاستئصاليون تأثيرهم على وسائل الإعلام العمومية ، و على المهرجانات الفنية و السينمائية ، و حشدوا الإمكانات الهائلة المادية و المعنوية ، و رصدوا الميزانيات الضخمة ، لمحاربة القيم الأخلاقية و الدينية للمجتمع ، و العمل على نشر ثقافة الانحلال و الميوعة ، و إشاعة العبثية و اللامبالاة ، تحت عنوان " انعدام الغاية يبرر الوسيلة " .
و قد كان الاستئصاليون يضعون نصب أعينهم النموذج التونسي ، كنموذج للنجاح في تجفيف منابع التدين ، و محاصرة القيم الأخلاقية و الدينية ، إلا أن فشل هذا النموذج و انهياره بذلك الشكل الدراماتيكي الذي رأينا ، أعطى الدليل القاطع على استحالة اجتثاث القيم من المجتمع ، و استحالة اقتلاع هذا المجتمع من ثقافته الدينية و منظومته القيمية و الأخلاقية .
و لعل انهيار النموذج التونسي لم يكن المثال الوحيد ، و إنما سبقه النموذج التركي الذي يعد مثالا بارزا جدا على فشل حقيقي لمحاولة اجتثاث المجتمع التركي المسلم بأكمله و اقتلاعه بالقوة و السلطة من جذوره الدينية الإسلامية ، إلا أن هذا المجتمع أثبت بالواضح و الملموس أنه لا السلطة و لا مرور الزمن و السنين و لا ولادة أجيال جديدة ، تربت في ظل هذا النموذج و تحت عينه ، تستطيع أن تنسيه في جذوره و أصوله ، أو في دينه و قيمه .
و لئن كان تجذر ثقافة المقاومة و الممانعة و رسوخها و انتشارها ، خاصة في عصر الصحوة الإسلامية ، و في ظل الثورة الاتصالاتية و انتشار القنوات و الفضائيات و شبكة الأنترنيت ، قد أثبت استحالة الاجتثاث القيمي للمجتمعات الإسلامية ، و بالتالي فشل الرهان على استهداف القيم و الأخلاق ، فإن الاستئصاليين لا تعوزهم الحيلة ، و لا يعدمون الوسائل و المخططات للوصول إلى أهدافهم ، و لذلك فإنهم بعد فشل مخططهم في استهداف القيم بدأوا يراهنون على استهداف الهوية أو ما يمكن تسميته بمخطط التشظي الهوياتي . و ذلك من خلال محاولة ضرب وحدة الهوية أو الهوية الموحدة للمجتمع المغربي ، من خلال إغراق النقاش بالحديث عن أكثر من هوية و أكثر من مكون و أكثر من انتماء ، و أكثر من لغة ، و العمل على تمييع النقاش حول القضايا الكبرى المتعلقة بالهوية و تعويمها ، بعد أن تبين صعوبة تجاوز نقاش الهوية بالمرة ، و هنا يمكن رصد المسألة على ثلاث مستويات :
المستوى الأول يتعلق بمكانة الدين الإسلامي في الهوية المغربية ، من خلال الدعوة إلى التعامل معه ليس باعتباره الأساس الذي قامت عليه الدولة المغربية ، و أساس توحدهم و اجتماعهم ، و أساس حضارتهم و إشعاعهم ، و أساس مواجهتهم للشدائد و الأزمات ، سواء في مواجهة المستعمر تحت راية الجهاد ، أو مقاومة مخططاته ، كالظهير البربري الذي استهدف تفريق الوحدة و اللحمة بين العرب و الأمازيغ ، و إنما كرافد فقط من الروافد الكثيرة و المتعددة التي يجب أن تكوِّن الهوية المغربية .
المستوى الثاني يتعلق بقضية الانتماء للعالم العربي و الإسلامي ، حيث لا يراد لها أن تكون بمثابة العمق الحضاري و الاستراتيجي للمغرب ، و لا أن تكون علاقة العضو بالأمة ، و إنما أن تكون العلاقة بين الدول العربية و الإسلامية مجرد علاقات دولية ، مثلها مثل العلاقات مع بقية الدول الأخرى ، و لذلك تتم محاولة تمييع النقاش بالحديث عن أكثر من انتماء ، تارة عن الانتماء للمغرب العربي الكبير ، و تارة لبلاد تامزغا ، و تارة لإفريقيا ، و تارة لحوض المتوسط ، و تارة عن الانتماء الكوني .
المستوى الثالث يتعلق بمكانة اللغة العربية ، التي بعد أن فشلت كل محاولات اجتثاثها و تعويضها بالفرنسية ، تتم الآن محاولات للتشويش عليها و على مكانتها ، من خلال اللجوء إلى الحديث تارة عن ترسيم الدارجة و تارة عن تشجيع اللهجات ، و تارة أخرى عن دسترة أكثر من لغة رسمية ، بهدف ضرب اللغة العربية أو على الأقل التشويش عليها ، ليس فقط كلغة موحدة للمجتمع المغربي ، و إنما كرابطة له بعمقه الاستراتيجي و الحضاري الممتد في العالم العربي و الإسلامي على أوسع نطاق جغرافي و تاريخي .
و الخلاصة أن كل هذه السياسات الاستئصالية و التغريبية إنما تهدف إلى اقتلاع المغرب من محيطه العربي و الإسلامي ، و تحويله إلى تجمع بشري صغير ، و دولة ضعيفة ، يسهل الاستفراد بها ، و تذويبها و مسخها حضاريا ، في تجاهل تام و تنكر واضح لدور المغرب و إشعاعه الحضاري الإقليمي ، و لتاريخه الطويل .
لذلك وجبت دعوة العقلاء و أصحاب الرشد في هذه الأمة إلى اليقظة و الحذر من خطورة هذه المخططات ، و أن يقوم الجميع ضد هذه المحاولات الساعية لتكريس التشرذم أو التشظي الهوياتي ، الذي سيكون له بالغ الخطر على المجتمع المغربي و الدولة المغربية ، و التي لن تستطيع البقاء قوية إلا بتقوية مكانة المرجعية الإسلامية و اعتبارها ثابتا من ثوابت الوحدة و ليس فقط مجرد رافد من روافد الهوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق