السبت، أغسطس 21، 2010

الأمازيغية.. اللغة و الكتابة و رهانات الهوية (1)

بقلم : الدكتور جمال بندحمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيف تناول الخطاب الأمازيغي قضايا اللغة و الكتابة و الهوية ؟ ما المسار الذي قطعه ؟ ما خلفياته النظرية ؟ و هل يتميز بانسجام المواقف و الرؤى ؟ و أية هوية يتم الدفاع عنها ؟ و ما علاقتها بباقي مكونات الحقل الثقافي المغاربي ؟

تعمل هذه الدراسة على رصد مختلف هذه القضايا باستحضار نصوص لمهتمين بالأمازيغية في علاقتها بالتاريخي و اللغوي و السياسي . كما تعمل على مناقشة الوضع القانوني للأمازيغية في علاقتها بمختلف عناصر الخريطة اللغوية المغربية التي تعرف تنوعا يستلزم تدبيرا عقلانيا و تفاعليا .

مقدمة
نؤطر دراستنا ضمن نظريات تحليل الخطاب ، و نسيجها بمفاهيمه و نحدد الخطاب المدروس في << الخطاب الأمازيغي >> الذي نقصد به كل تناول لما يرتبط بالأمازيغية بهدف الكشف عن خلفياته المعلنة و المضمرة ، ثم نخصص هذا الخطاب في مستواه اللغوي .

لأجل ذلك ، سنستنبط القضايا المتناولة من داخل هذا الخطاب نفسه ، رغبة منا في تحديد درجة انسجامه أو تفككه و اضطرابه ، مؤكدين على الارتباط التام بين البحث في قضايا اللغة و الخط و حرف الكتابة ، و المطالب العامة التي تقترن بمجالات اجتماعية و اقتصادية و قانونية و نفسية . و معنى ذلك أن معالجتنا ستكون نسقية ، تستحضر مختلف العناصر التي تعتبرها تجليا لما هو أعمق من قضية الحرف و الكتابة . ذلك أن حصر النقاش في الجوانب التقنية و اللسانية الصرفة قد يبعد عن تحديد أبعاد الموضوع ، و حساسيته التاريخية و الحضارية ، لأنه يجعلنا أمام نقاش وصفي خال من العمق المعرفي . هذا العمق الذي نؤكد من خلاله أن منطلقاتنا تؤمن بحق الاختلاف و التعدد ، و تجعل الأمازيغية قضية كل المغاربيين لأنها جزء من ماضيهم و حاضرهم و مستقبلهم ، و أن << خصخصتها ليست قرارًا حكيمًا >> ، لأنها تواجه إشكالات متعددة ، بعضها اجتماعي يحتاج إلى الوعي بخصوصيات النسيج الاجتماعي المغربي ، وفق منظور ديمقراطي يتعالى على الجزئيات و النبش في قضايا يرجع بعضها إلى سلوكات فردية تُقرأ اليوم قراءات مُغرِضة ، و بعضها سياسي قانوني يتعلق بمطالب معينة مثل دسترة الأمازيغية ، و ازدواجية اللغة الوطنية و الرسمية ، و غيرهما من القضايا التي منطلقها اللغة و إشكالية الكتابة ، و نهايتها المجتمع و التاريخ و الدين .

نفهم ، و لاشك ، دواعي حديثنا عن ضرورة المقاربة النسقية لمعالجة الإشكال ، إذ ليست اللغة كيانا محايدا ، كما أن << حجة التاريخ >> ، و << حجة المستقبل >> ليستا بعيدتين عن التناول ، إذ كثيرا ما يلجأ الخطاب الأمازيغي إلى التاريخ لتعليل اختياراته، وإلى المستقبل من أجل الدفع بحجة العلمية إلى الأمام . و لكل اختيارٍ مضمراته التي لا يتم الإفصاح عنها ، و التي يكشف عنها تاريخ الحَرْف و حكيه .

1 ــ حكي الحرف
يتجاهل الخطاب الأمازيغي << حكي الحرف >> الذي هو جزء من التاريخ العام للغة ، بل إنه يعمل على التأسيس لتاريخ مغاير تصبح فيه الدولة البورغواطية و الاستعمار الفرنسي نموذجين إيجابيين . فعبد الله بونفور مثلا ، يتحدث عن << عقدة اللغة >> فيقدم صورة عن تاريخ الكتابة من خلال نصين ، يتحدث في الأول عن تجربة معارضة الفتوحات الإسلامية ، و يتحدث في الثاني عن السياسة اللغوية الفرنسية .

يصف النص الأول تجربتين معارضتين للفتوحات الإسلامية ، يقدمهما الاتجاه التنبئي prophétaires من خلال نموذج كَابس (تونس)، و نموذج الدولة البورغواطية بالمغرب << التي دامت أربعة قرون ... هكذا استطاعت دولة أمازيغية حقيقية أقيمت على أساس كتاب مقدس مكتوب بالأمازيغية أن تدوم أربعة قرون في السهول الأطلسية بالمغرب ، و يتبين من خلال هاتين التجربتين أن الهدف كان هو ، إنشاء دولة خلافة ... مع النهوض باللغة الأصلية التي هي اللغة الأمازيغية كلغة دولة و عبادة >> .

إن روح التمجيد التي نقرأها لدى عبد الله بونفور ، و التي تفتقد الاستدلالات التاريخية ، تجد صدى كبيرا في الخطاب الأمازيغي الذي يبحث عن أصل مفترض للغة موحدة ، لكن الإحالة على البورغواطيين ليست بريئة ، إذ ينبغي أن تقرأ بخلفياتها الدينية التي تجعل << حكي الحرف >> مرتبطا بأشياء أخرى .

لتأكيد ما سبق ، نستحضر نصا آخر لمحمد الطالبي الذي يقول : << و قد نزل على صالح بالطبع قرآن باللسان البربري ، يشمل ثمانين سورة مقابل أربعة عشرة و مائة بالنسبة لمنافسه و نموذجه العربي . و مثلما لاحظنا سابقا ، فإن القرآن المنسوب إلى صالح يفتقر كليا إلى الأصالة إذا حوكم بعناوين بعض السور ( أيوب ، يونس ، فرعون ، ياجوج و ماجوج ، العجل ، الحنش ...الخ) و بالمقتضيات التي احتفظ لنا بها البكري . و تقع أهميته في مكان آخر ، ذلك أن صاحبه كان " مضطلعا بلغات البربر " التي يعرف منها أكثر من لسان ( يفهم غير لسان من ألسنتهم ) . و من ثم ، كان نصه ينافس القرآن ، ليس بمضمونه فحسب ، و إنما بإتقان أسلوبه كذلك . و لم يكن بإمكانه ألا يضع في اعتباره خصوصيات مختلف ألسنة الناس الذين كان موجها إليهم ، بل اقتضى أن يصاغ ضمن لهجة مشتركة بهذا القدر أو ذاك بين مختلف القبائل المجتمعة في مملكة تامسنا ، و التي لم تكن ... من نفس الأرومة الإثنية . و عليه ، لو أن التجربة نجحت كليا ، لتوفر البربر دون شك على لغة وطنية موحدة و مكتوبة يحتمل أن تتبع تطورا شبيها بتطور العربية >> .

إن هذا الإرث المرجعي غير مؤكد على نحو ما أثبت الباحثون الذين ارتبط اسمهم بالدراسات البربرية ، فأندري باسيA. BASSET يرى أن "البربرية" لم تقدم لغة موحدة و لم تكن لها آداب مكتوبة أو مدارس تعلم فيها ، بل إنها فتتت إلى لهجات . و إف جوتييرF. GAUTIER يؤكد أن لا وجود لكتاب واحد بالبربرية ، و لا توجد كتابة حقيقية لها ، بل لا توجد لغة بربرية منتظمة .

نترك النص الأول ، و ننتقل إلى النص الثاني ، إذ تَطّرد في الخطابات الأمازيغية حكاية التعريب التي استهدفت الأمازيغية ، و لم تستهدف شيئا آخر، بل إن << مدرسة الجمهورية الفرنسية في المغرب قد شاركت في تعريب هذا البلد بشكل أكبر ، مما قامت به دول أخرى في الماضي ... و من هذا المنطلق يعد الاتجاه العروبي تقليدا محضا للإيديولوجيا اليعقوبية ، أي أن الدولة الوطنية ليست وريثة دولة الخلافة كما يدعي البعض ، و لكنها وريثة الدولة الكولونيالية >> .

ينقلب حكي اللغة ، و يصبح التنقيب في الكتابات الكولونيالية أمرا ضروريا ، و الأدلة لا تعوزنا ، لكننا نكتفي باستدلالين : أولهما نقتبسه من مذكرة ليوطي الموجهة إلى ضباط مخابراته في 12 يونيو 1921 حيث يقول : << إن اللغة العربية تمثل في أعين هؤلاء البربر ما حاربوا ضده منذ ثلاثة عشر قرنا ، أي الاندماج العربي >> ، بل إنه يؤكد << ليس علينا أن نعلم العربية لمجموعات من الناس استغنوا عنها دائما . إن العربية عنصر أَسْلَمَةٍ ، لكونها تلقَّنُ في القرآن >> .

أما الاستدلال الثاني ، فنعتمد فيه على ما ورد في حكي مؤرخ موضوعي عارف بتاريخ المغرب ، لكنه صاغ تصوره في شكل روائي تقدمه رواية "غريبة الحسين".

تحكي الرواية حكاية كلوديت التي ترغب في تدوين نوتات الآلة ، فتربط علاقات مع الوطنيين ، و تطوف مدن المغرب ، غير أن ملابسات الحكاية تدفعها إلى الاختفاء عن أعين السلطات الفرنسية التي دبرت لها عدة مكائد ، و تستقر بالجبل ، و تحول اسمها إلى "تاغربت" و "منة" ، بينما يتحول سائقها علال إلى "الحسين" الذي أحبته و قررا الزواج ، لكن عادة القبيلة اقتضت أن تنسج العروس عباءات برسوم معينة ، و لمعرفة كلوديت (منة) بالعربية فقد كان رسم كتابتها بها "غريبة الحسين" غير أن إعجاب نساء قبائل الحلفاء برسم (منة) العربي دفعهن إلى تقليده و بيعه في أسواق مكناس حيث وقع عليه الطلب .

يقول علال : << و قد بلغ الخبر إلى الحكام و تروعوا لذلك ، و قال بعض المخزنيين المقربين لقبيلتنا إن سبب تروع الحكام حسب ما أخبرهم به ترجمان في إدارة شؤون الأهالي هو استعمال الكتابة العربية في منسوجات هذه القبائل ... و لعلهم أرادوا أن يعرفوا هويتك و يتحققوا من علاقتك بالوطنيين >> .

تصبح لهذا الحكاية قوة حجاجية كبرى ، إذا علمنا دفاع الخطاب الأمازيغي عن دور المرأة في المحافظة على << اللغة و الخط >> ، لأن << الأمازيغية الحقيقية هي المرأة >> . و هو تصور مستمد مما صاغه بعض الإسبان الذين رأوا أن العرب لم يغزو الأندلس ، لأن المرأة الإسبانية احتوت الوافدين و مررت عبرهم ثقافة مجتمعها .

إن ما يهمنا ، نحن ، في هذا السياق هو التأكيد على أن للغة ذاكرة ، و أن الحرف جزء منها ، لكن هذه الذاكرة تتعرض إلى الخلخلة بهدف تبني تصور تستجيب له ، إذ عندما تتم الدعوة إلى تبني كتابة الأمازيغية بحرف معين ، تكون الاستشهادات قائمة ، و إن كانت مصنوعة ، لأن التاريخ سيفسر بالتمثل ، و ستتم الدعوة إلى إعادة قراءته . و عليه ، فإن استراتيجية الخطاب الأمازيغي محبوكة و محددة . إنها تدعو إلى إعادة قراءة التاريخ بمضامين جديدة لتستند على هذه النتائج فتربطها بدعوتها إلى تبني هذا الحرف أو ذاك . من هنا نفهم ربط بونفور بين الفرنسية و العربية إبعادا لتهمة الفرنكفونية التي ستربط باختيار الخط الفرنسي ( اللاتيني ) . و من هنا نفهم إعادة المشروعية للدولة البورغواطية بدعوى وجود محاولات رائدة لتوحيد الأمازيغية ، و تنميطها ، و منحها المعيارية المرجوة ، بل إن القول بوجود كتاب مقدس للبربرية يستلزم القول بوجود قواعد نحوية و صرفية و خط للكتابة ، فالمحاولة اليوم ليست مقطوعة الجذور . بذلك يلعب التاريخ دور المانح للشرعية اللغوية ، و إن كانت على حساب << قوة التاريخ >> و مشروعيته .

2 ــ الأمازيغية المعيارية و الديمقراطية اللسانية

دافع الخطاب الأمازيغي عن لغة معيار ، و دعا إلى تنميطها و التقعيد لها ، مفترضا وجودها بالقوة لا بالفعل ، و خاض في مناقشة قضايا شكل الكتابة قبل الحسم العلمي في الموضوع . دون أن ينتبه إلى تناقضه ، إذ يعتبر نفسه قاطرة الديمقراطية المؤمنة بالتعدد و الاختلاف و العقلانية و الحداثة ، لكنه يؤمن أيضا بإمكان تذويب الريفية و الشلحة و تمازيغت في لغة اصطناعية تتواضع عليها مجموعة محدودة لغايات غير محددة .

يقول محمد الشامي : << التعدد حكمة ، و في واقعنا المغربي نعيش التعدد سياسيا و اقتصاديا ، و لكن نتجاهل أن يكون هناك تعدد ثقافي و لسني >> .

إن هذا الحديث العقلاني الحداثي صحيح على المستوى النظري ، لكنه ليس صحيحا على مستوى الواقع ، و غير عقلاني أو ديمقراطي على مستوى التنفيذ . فعبر تاريخ المغرب الطويل لم نعرف << حربا لغوية >> ، و لم يحدث التضييق على استعمال الأمازيغية . و لنا أن نقرأ كتاب << التشوف إلى رجال التصوف >> لنجد أسماء علماء و صالحين تحدثوا بلسانهم الذي يعرفون ، و لنا أن نقرأ أزجال ابن قزمان لنجد << البربرية >> جزءا من بنية الموشح ، بل لنقرأ << أمثال العوام >> للزجالي البربري لنجد أمثالا بكلمات أمازيغية مدونة بحروف عربية ، بل إن الكل يعلم ما قام به الموحدون و بعدهم المرينيون ( و هم أمازيغ ) بخلق التعايش بين العربية و << لهجات البربر >> ، فالمهدي بن تومرت الذي كتب << التوحيد >> و << المرشدة >> و << العقيدة >> بأمازيغية عربية ، هو نفسه الذي اجتهد من أجل تعليم "القوم" حفظ آي القرآن بلغة عربية فصيحة ، << عسر عليهم حفظ الفاتحة لشدة عجمتهم ، فعدد كلمات أم القرآن ، و لقب بكل كلمة منها رجلا ، فصفهم صفا و قال لأولهم ، اسمك : الحمد لله ، و للثاني : رب العالمين ..، و هكذا حتى تمت كلمات الفاتحة . ثم قال : لا يقبل الله منكم الصلاة حتى تجمعوا هذه الأسماء على نسقها في كل ركعة ، فسهل عليهم الأمر >> .

إن قراءتنا لهذا الحدث بالغة الدلالة ، فما قام به المهدي يدخل في باب البداغوجيا التي تعمل بمبدأ "التكييف"، فهو لم يقص الأمازيغية ، و لم يهمش العربية . و السلوك نفسه نجده لدى ملوك مثل سيدي محمد بن عبد الله الذي كان يخاطب الأمة بالعربية و الأمازيغية . و لم نقرأ لسلطان مغربي أو مسؤول ضربا لهذا التعدد ، لكن الخطاب الأمازيغي هو ذاته الذي يدعو إلى وأده من خلال إدماج كلي للهجات الثلاث في لغة معيار بقرار نضالي و إداري ، علما بأن هذا المطلب اللغوي هو ما اجتهد المنظرون الاستعماريون من أجل إثباته . فقد حاولوا إيجاد علاقة بين البربرية و اللغات الأوربية القديمة ، لكن مسعاهم لم يتحقق لوجود معوقات موضوعية هي نفسها التي يمكننا مناقشة الطموح الأمازيغي بها .

فسالم شاكر (1985)،(1995) جعل منطلقاته النظرية ذات أسس مقارنة . و نعتقد أن جزءا مما قام به الأستاذ شفيق يدخل في هذا المجال ، و قد سبق لرائد الاتجاه الفللوجي المقارن (شليجل) أن أكد حدود هذا الطموح العلمي ، لأن صاحبه يرغب في أن << يتنبأ بالذي مضى >> .

يقدم معجم الأستاذ شفيق نموذجا لهذه المقاربات التي تستهدف استقراء الأمازيغية الفصيحة من الأمازيغية المتداولة ، فهو ينطلق من الحرف العربي للوصول إلى الألفاظ الأمازيغية المقابلة له ، و التي تستعمل في مختلف المناطق مع ترجيحه للفظ الأول الذي يقترحه لبناء الأمازيغية المشتركة ، و قد قدم لهذا المعجم بقواعد لكتابة << اللغة الأمازيغية >> بالحروف العربية ، و شرح الجوانب المتعقلة بالحركات و طريقة كتابة الضمائر ، و حروف المعاني . و ضمنه قواعد مبسطة في النحو الأمازيغي ( الاسم و الصفة و الفعل ) ، كما ألف كتابا آخر يحمل طابعا تربويا << أربعة و أربعون درسا في اللغة الأمازيغية >> ، غير أن مجهوداته تواجه بالمعوقات التي واجهتها اللسانيات السلالية من جهة ، و بازدواجية الخطاب من جهة ثانية ، على نحو ما سنوضح لاحقا ، و لو أردنا الدخول في لجاج المقارنات لبحثنا عن مسوغات تربط العربية بالأمازيغية ، و هو ما فعله مؤلفا << عروبة الأمازيغ بين الوهم و الحقيقة >> و << القبائل الأمازيغية >> ، و ما أكده الأستاذ شفيق نفسه ، حيث بحث في التماثل الصوتي فأثبته بأدلة و استشهادات ، ثم بحث عنه في الصرف و النحو فأكد : << لقد لاحظنا في الأمازيغية معطيات صرفية و نحوية تتلاقى و بعض المعطيات الصرفية و النحوية العربية ، من ذلك طرائق الجمع و التأنيث ، و منها تقارب عدد من الضمائر المتصلة >> . و أما المعجم فرغم وجود اختلافات... << يوجد ، مع ذلك ، بين اللغتين توارد في مجال الخلق المعجمي ، بما أن الجذر الثلاثي هو السائد فيهما معا >> .

لا شك أن لهذه المقارنات أبعادا و نتائج . فهي تستهدف من جهة تسييج عملها بروح علمية رصينة ، ثم تحاول من جهة أخرى البناء على نموذج إيجابي مرتبط باللاشعور المعرفي ( inconscient cognitif ) للمغاربة ، إذ هذا التماثل هو الذي يؤكد وجود لغة أمازيغية معيارية وإلا انتفت الصفة على العربية أيضا ، لأن الأستاذ شفيق يعلم أكثر من غيره أن بناء و تشييد لغة افتراضية تواجهه صعوبات معرفية و سياسية و اجتماعية ، بل إننا نجد الانتقاد لهذه الأطروحات من داخل الحركة الأمازيغية نفسها . يقول اليزيد البركة : << ليس هناك معجم واحد للغة الأمازيغية (أو) كتاب واحد (أو) مقال واحد ، و لا أحد يستطيع أن يكتب أو يتكلم باللغة الأمازيغية >> . و هذا الكلام يقتضي رفض كل تقنين يقصي لهجة لحساب أخرى . و هنا يكمن مأزق الخطاب الأمازيغي و صعوبة الملاءمة بين حديثه عن الحقوق و التعدد ، و إيمانه بإمكان إقصاء عنصر و هيمنة آخر ، مع ما قد يترتب عن ذلك من مطالب جهوية ترفض التخلي عن اللهجة الأم لصالح لغة مصطنعة ، علما بأن التاريخ يخبرنا بأن قضايا اللغة تقود إلى مزالق متعددة ، و لنا في تجربة باكستان و بنغلاديش نموذجا للقياس . و عليه فإن تعيير الأمازيغية ليس أمراً يسيرًا لأنه يرتبط بقضايا أخرى .

و كيفما كان الأمر فإن الخطاب الأمازيغي ملزم بتحديد مرجعيته اللغوية المرتبطة بالعمق التاريخي ، إذ أية أمازيغية يراد تعييرها ؛ أمازيغية أغسطين و كسيلة و الكاهنة ، أم أمازيغية طارق بن زياد و المهدي بن تومرت و محمد علي أوزال صاحب كتاب << الحوض >> ، و أبي الحسن اليوسي و المختار السوسي ، لأن الجمع بين الجميع في << نموذج واحد مؤمثل >> لا يستقيم . لتأكيد ذلك نستشهد بنص للأستاذ شفيق ، يقول : << كل من له علم بتاريخ قدماء الأمازيغيين يسلم بأن كسيلة و داهيا و ميسرة و غيرهم من "الثوار" إنما واصلوا سلسلة من الانتفاضات الشعبية الدفاعية في نطاق الخطة التي دشنها " تاكفاريناس" و" أيديمون" و" كاركاسان" في غابر الأزمان . و عمل بها في تلقائية كل من محمد بن عبد الكريم الخطابي و موحا ؤحمو الزياني ... و عسو ؤبسلام و غيرهم في الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي >> .

إن الربط بين كسيلة و داهيا و ميسرة و الخطابي و الزياتي و عسو ؤبسلام يستهدف خلق << نموذج مؤمثل >> يؤثت ذهن المتلقي بجعل << العصا من العصية >> . و هكذا فإن المثال ، و إن كان واردا في سياق غير لغوي ، يقترن استدلاليا باللغة حيث يعبر الجميع عن نموذج متماثل بروحه و مسلكياته العامة .

3 ــ من المعيارية إلى الدسترة

تطالب الخطابات الأمازيغية بدسترة اللغة ، و هو أمر مشروع لدى كل من يؤمن بتنوع الهوية المغاربية ذات النسق المفتوح (عربية ، أمازيغية ، إفريقية ، زنجية ، أندلسية ) ، بل إن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قد حمل في ديباجة الظهير المنظم له التأكيد على هذا التنوع ، غير أن ما يهمنا نحن ، في هذا المقام ، هو استجلاء مواقف الفاعلين داخل هذا الخطاب بتحديد تصوراتهم و اقتراحاتهم . ذلك أن جوهر هذه الدسترة هو القول بالتعدد اللغوي الذي ينبغي الإقرار به مع عقلنته للحفاظ على توازن النسيج الاجتماعي المشكل من لغات وطنية و جهوية متعددة ( العربية الفصحى ، العربيات المغربية ، الدوارج ( عربية سهول المحيط الأطلسي ، عربية الحاضرة ، عربية البادية ، عربية الواحات ، الحسانية...) البربريات المغربية (تشلحيت ، تريفيت ، تمزيغت) . و هذا الغنى اللغوي الإيجابي قد يؤدي إلى << فوضى الشخصية المتعددة >> ؛ لأن المجتمع في حاجة إلى << إسمنت اللغة >> كما يؤكد إدوارد بيرهر في كتابه (أمريكا التي تخيف) ، و إسمنت اللغة هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود لغة وطنية رسمية واحدة ، لا تمنع عن الأخريات وطنيتهن و جهويتهن ، و إلا فإننا سندخل غدا باب << الترسيم >> بمعناه الواسع . لذلك ، نفهم لماذا تأخرت فرنسا في الإقرار بتدريس اللغات الجهوية (1981)، و نفهم وعي باحث أمازيغي بحساسية الموضوع . يقول وعزي : << ... من هنا فهذه سياسة متروكة للجميع ليقرروا فيها . و يبقى بطبيعة الحال ، أن نموذج الدولة هو الذي يحسم في المكانة التي يمنحها للغة >> .

لا ينفصل حديث الأمازيغية المعيارية عن الدسترة لأن تحديدها هو خطوة أولى نحو دسترتها ، و إلا فإن المطلب عام و فضفاض . فأية الأمازيغيات سيتم التنصيص عليها قانونيا ؟

لو عدنا إلى بعض الخطابات الأمازيغية سنجد الأمر محسوما : << فاللغة الأمازيغية ، من هذا المنظور ، هي المواطنة الأولى في أرضنا ، و هي الكائن الوحيد غير المشكوك في انتمائه لوطننا و ارتباطه الدقيق به >> ، بل إن التأكيد يصدر صارما : << الأمازيغية هي لغتنا الوطنية الأزلية >> . لنصبح أمام ثنائية جديدة هي << اللغة الوطنية الطبيعية و اللغة الوطنية المكتسبة >> ، غير أن قانونيا أمازيغيا يقدم قراءة خاصة لوضع اللغة دستوريا ، فهي تكون رسمية ( كما هو شأن العربية في الدستور المغربي ) عندما يتم الإقرار بأجنبيتها ، لأن المصطلح يستعمل في << دساتير الدول التي تحكمها حكومات استعمارية ، فمثلا اللغة الفرنسية في السنغال هي لغة رسمية ، فأغلبية الدول الإفريقية التي تستعمل الفرنسية أو الإنجليزية أو الأسبانية يوضع في دساتيرها لغة رسمية ، و المغرب استعمل بالنسبة للغة العربية لغة رسمية و لم يستعمل مفهوم اللغة الوطنية ، لأن اللغة الوطنية تفرض فعلا أن تكون منبثقة من الوطن، ومن ثم كان مطلب الجمعيات الثقافية الأمازيغية اعتبار الأمازيغية لغة رسمية ووطنية ....لأن اللغة الوطنية ترتبط بالشعب الذي يستعملها فلا تكون لغة رسمية فقط حتى لا تشبه الفرنسية في دول أخرى ، و لغة وطنية لأنها ترتبط بالشعب و لأنها لغة أصلية في البلاد >> .

يدافع ظاهر الكلام عن الأمازيغية التي لم يتم تعييرها بعد ، و يكشف باطنه عن ضرب العربية الرسمية ( الأجنبية ) ! التي اقترن التقنين لها ، حسب الخطاب الأمازيغي ، بفترة الاستقلال لأن التعريب كان يهدف ضرب الأمازيغية . و هو حكم قاد إلى تقديم تحليلات تغيب تاريخ القانون بالدفاع عن طرح يرى في دستور 1962 المدخل إلى التعريب ، و تجاهل مشروع دستور 1908 الصادر في عهد المولى عبد الحفيظ الذي نص في مواده المختلفة على المعرفة بالعربية قراءة و كتابة كي يتسنى للإنسان التوظيف أو ولوج مجلس الأمة ، و ضرورة التدريس بالعربية . و معنى ذلك أن هذا المشروع ، الذي لم ينفذ ، كان مسايرا لروح الأمة و تاريخها ، و لم يكن اغترابا و إحساسا بالدونية . و يخطئ من يقدم علماء أجلاء مثل السوسي أو اليوسي بصفات كهذه ، لأن هؤلاء وعوا أن الهوية الإسلامية اقترنت بالهوية اللغوية عن اختيار و طواعية لا إكراه فيهما . يصعب الإقرار ، إذن ، برأسين لغويين ، و يسهل الإقرار برأس رسمي وطني ، و مكونات وطنية متعددة ، إذ العربية هي اللغة القادرة على ضمان وحدة الأمة لأنها ليست لغة لطائفة أو عشيرة . و لندع حجة اللغة العامية لأنها لغة إصهار بيني ، تتعايش داخلها العربية و الأمازيغية و الحسانية ، و تحمل بصمات أولئك الذين مروا من هنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق