الأحد، أغسطس 08، 2010

الارتباط الوثيق بين الإسلام و اللغة العربية

بقلم : عبد الحي عمور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العربية لغة الوحي
إن اختيار اللغة العربية لوحي الله تعالى و رسالته الأخيرة إلى البشرية ، يعني أنها كانت في زمن نزول الوحي ( القرآن العظيم ) ، أفصح اللغات و أصفاها، و أرقاها و أكثرها قدرة على استيعاب أحاديث الوحي و مضامينه ، و قيمه وتعاليمه ، بما تمتلكه من خصائص و مميزات و تمتاز به من ثراء و مقومات ، حيث بلغت في ذلك العصر
أعلى مستوياتها اللفظية و التعبيرية بما جعلها أرقى اللغات و أقدرها على التلقي و البيان و الاستيعاب و التأثير . و قد تعهّد الله تعالى بحفظ هذه اللغة و بقائها خالدة وفق ما جاءت به نصوص الوحي من السماء ، إذ نزول القرآن بهذه اللغة و كونه كتابا عربيا يُفهم من خلال معهود العرب في الخطاب ، يعني أن هذه اللغة خالدة بخلود القرآن و حفظه و دوامه : << إنا نحن نزلنا الذكر و إنا لـه لحافظون >> ، مما يضمن لها البقاء و الاستمرار ، و يمنح لأصحابها المنعة و القوة و الوحدة ، و يؤكد أن هذه اللغة أراد لها ربّ العزة أن تكون عالمية شاملة ، ما دام الوحي الذي نزل بها هو للبشرية عامة : << و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا >> ، و القرآن الكريم وصف نفسه بأنه عربي و أكّد ذلك في أكثر من آية و سورة : << نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين >> ، و عروبة القرآن أحد أهم أوصافه لأن العربية لسان الرسول الخاتم فهو عربي الأصل و اللسان ، و قد اختار الله تعالى أن يخاطب البشرية خطابه الأخير بهذا اللسان العربي ليصبح لسانا ثقافيا عالميا ، << فلم يتكلم الرسول إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة و شُيّد بالتأييد و يسير بالتوفيق ، أوَ لم يقل الله تعالى : << و ما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى >> (الجاحظ البيان و التبين ) .

اللغة العربية جزء من الإسلام

اللغة العربية جزء من الإسلام ، يقوى بها و يضعف أصحابها بضعفها ، و التاريخ الإسلامي يحدثنا أن ازدهار الإسلام و انتشاره و التمسك به و العمل بأحكامه و الحياة وفق تعاليمه ، كان يصاحبه في الغالب ازدهار اللغة العربية وذيوعها و سيادتها لأنها لغة دين و دنيا ، و علوم و آداب ، و ثقافة و حضارة ، حيث كانت اللغة العربيـة في زمن عِزّ الإسلام سبيل النهضة و الرقي لكل المسلمين عربيهم و أعجمهم ، إذ السيادة أساسا للدين لا للعرق و الجنس ، والأخوة في الإسلام تقوم على وحدة العقيدة و الدين قبل أية آصرة أخرى . و من البديهي أن من مستلزمات الفهم السليم و الإدراك الصحيح للقرآن و تمثل معانيه و استيعاب أحكامه و تعاليمه و قيمه ، تعلم لغته التي نزل بها ، ذلك أن فهم أي كتاب فهما حقيقيا - و خاصة كتاب الوحي - لا بد له من تعلم اللغة الأصلية التي جاء بها ، و لهذا فإن الذي يريد الحديث عن القرآن و فهمه و إدراك مقاصده واستبطان أسراره لا بد لـه أن يتعلم اللغة العربية التعلم الكفيل بتحقيق ذلك ، باعتبار أن دلالة الخطاب الإلهي لا يدركها و يتذوق معانيها و مغازيها إلا من امتلك ناصية اللغة ، و على الذين يدعون إلى قراءة جديدة للقرآن و تجديد الفهم لـه في ضوء الدراسات اللسانية الحديثة أن يتقنوا أولا لغة القرآن ، فالترجمات العديدة لمعانيه و التي يطبعها عدم الإتقان لا تفي بدلالاته و لا تعبر التعبير الحق عن كنهه و أسراره ، و لا تنفذ إلى أعماق القارئ بما يقوّي الاعتقاد و يحبب إليه الدين الإسلامي و يرغبه فيه . و لكن خصوم الإسلام و أعداءه منذ بداية الاستعمار الأوروبي ثم العالمي ، الذين أدركوا الترابط الوثيق و الآصرة المحكمة بين الإسلام و اللغة العربية و تيقنوا من مدى تمسك المسلمين بدينهم ــ عقيدة وعبادات و معاملات و منهج حياة باعتباره دينا متماسك الحلقات ــ أخذوا يعملون على إضعاف اللغة العربية و التقليل من أهميتها في حياة المسلم الدنيوية سبيلا إلى إضعاف المسلمين ، و تجلى ذلك في عدة مظاهر منها :

ــ تقليص حصصها و عدم تطوير أساليب تعليمها و قصر تدريسها في المنظومة التربوية ، على العلوم الدينية و عدم اعتمادها في الاختبارات والامتحانات باعتبارها مادة ثانوية تكميلية ؛

ــ و إشاعة أن اللغة العربية ليست لغة علوم من هندسة ، و رياضيات ، و فيزياء ، و طب و غيرها ..، مما اصطلحنا على تسميته بالعلوم العصرية أوالدقيقة ، و من ثم فهي ليست لغة العقل و الفكر و الثقافة و الحضارة ، و إنما هي لغة العبادات و الشعائر الدينية .

و قد ترجمت هذه الاختيارات على واقع فرض نفسه في المؤسسات و المعاهد التعليمية ، و حتى عندما استقلت الشعوب العربية سياسيا ظل الاستعمار اللغوي و الثقافي مهيمنا على الحياة الفكرية و العلمية عند هذه الشعوب ، و أذكر أننا عندما قررنا تعريب العلوم أو بتعبير أدق تدريسها باللغة العربية أنشأنا مراكز لتكوين أساتذة العلوم للإعدادي و الثانوي ، و كنا و ما زلنا نقدم لهم هذه المواد باللغات الأجنبية كعلوم ( و ديداكتيك ) لمدة سنتين أو أربع سنوات حتى إذا أنهوا مدة التكوين العلمي و البيداغوجي نظمنا لهم في الصيف دورة تكوينية لمدة 51 يوما لترجمة المصطلحات هكذا !.. هذا الاتجاه خلق لدى المتعلمين في مختلف مراحل التعليم و أطواره شعورا قويا و إحساسا متناميا بأن اللغة العربية ليست لغة علوم و فنون بقدر ما هي لغة عبادات و فقه و حديث فقط ، و هي مقولة خطيرة على اللغة العربية و الأمة الإسلامية أن يقال عنها مثل هذه التخرصات التي تجد طريقها إلى الواقع و يتسرَّبُ إلى العقول و الأفهام أن اللغة العربية لغة عبادات بمفهومها اللاهوتي الكهنوتي محلها المساجد و المعابد و الزوايا ... و أن لغة العلوم هي اللغات الحديثة بما سيفصل العربية عن العلوم و الحياة و يحاصر الدين في المساجد و ينقطع التواصل اللغوي بين الدين و العلم بين لغة القرآن والعلوم ، مما خلق لدى العرب المسلمين إحساساً بالدونية ترتبت عنه هزائم نفسية أضعفت الشخصية العربية في إحدى مقوماتها التي هي اللغة فحطت من قدرها و افتقد الإنسان العربي المسلم معها الإحساس بالكرامة و العزة و القوة والمنعة ؛

ــ و اختلاف الألسن و تنوع الثقافات الذي هو آية من آيات الله ، و ما نتحدث به في هذا السياق من تلاقح فكري و ثقافي و تفاعل حضاري، هو في عصر التمزق و الضياع و افتقاد الهوية مما تشتكي منه الأمة الإسلامية يمثل ثغرة أساسية في جدار وحدة الأمة ، و يزيد من توسيع الهوة الفاصلة بين البناء الوحدوي الذي ننشده و يبقى الإسلام و اللغة العربية أقوى السبل وأشدها توحيدا بين مكونات الأمة و تأليفا بين شعوبها و مجتمعاتها . فاللغة العربية ــ و هي القاسم المشترك بين الشعوب العربية ــ تبقى حجر الزاوية في إعادة صياغة الأمة و لمّ شتاتها و بناء وحدتها و إشاعة ثقافتها ، باعتبار أن هذه اللغة اكتسبت من القرآن و وحي السماء مقومات و مرتكزات و قيما و تعاليم غير قابلة للإندثار والفناء - كما حدث لكثير من اللغات الأوربية التي اعتمدت لهجاتها الإقليمية والوطنية لسانا لها - إذ خلود القرآن الكريم و حفظه و دوامه مما يكفل لهذه اللغة البقاء و الاستمرار و الصمود في سنن التدافع و الدورات الحضارية .

تبقى الإشارة في سياق هذا الحديث إلى أن اللغة - أية لغة - هي وعاء لقيم الأمة المعبر عن مشاعرها و أحاسيسها ، كما أنها أوعية تفكيرها و عقد تواصلها ، فاللغة تبنى و ترتب في وجدان الفرد و جنانه قبل أن ينطق بها لسانه ، و بالتفريط فيها و الحط من قدرها و تحجيم دورها تفتقد الأمة و الشعوب والمجتمعات الناطقة بها خصائصها و مميزاتها إذ اللغة ليست مجرد قوالب و أبنية تصب فيها المعاني و الأفكار ، و لكنها إدارة التفكير و سبيله و ما يصدر عنه من تعبير ، حيث إن هناك نوعا من الترابط بينهما حتى يبقى التفكير سليما معبرا عما يحس به الفكر و ما يختلج في النفس مما يعني أن سبيل وحدة هذه الأمة يبدأ بتوحيد لغتها و ثقافتها و مصادر معرفتها .

حاجة اللغة العربية إلى تجديد منهجي

يتبين مما سقناه أن هناك ارتباطا بين القرآن الكريم و لغة الوحي (القرآن) ، و أن فهم النصوص القرآنية يتوقف على امتلاك ناصية اللغة العربية بكل مكوناتها و علومها ، و أن العلاقة بين علوم الدين المستنبطة من نصوصه الثابتة و بين علوم اللغة علاقة تلازم و ترابط لا انفكاك بينهما خاصة و أن معرفة أحكام الله تعالى المأخوذة من الكتاب لا بد فيها من إعمال النظر و الفكر في الألفاظ و التعابير و الأبنية و الصيغ القرآنية ــ الآيات ــ مما يعني أن للغة العربية وعلومها دورا أساسيا و موقعا مركزيا في استكشاف الأحكام الشرعية و الحقائق العلمية من النصوص القرآنية ، حتى إن العلماء القدماء من أمثال الراغب الأصفهاني و السيوطي و ابن خلدون رحمهم الله أكفوا على من يرغب في فهم كتاب الله - بله تفسيره - أن يتقن عشرة علوم التي منها علم اللغة و الاشتقاق والنحو و الصرف و البيان ... إذِ الذي لا يتقن هذه العلوم اللغوية سيكون فهمه للقرآن قاصرا لا يستقيم و لا يعول عليه ، لأنه يفتقد الآليات و الوسائل اللازمة للفهم المطلوب بسبب التكامل بين علوم الدين المستمدة من الخطاب الإلهي و بين علوم اللغة .

و مع كل ذلك فإن اللغة العربية في واقعها الحالي و من خلال الأساليب والطرائق ( الديداكتيك ) التي تقدم بها للتلاميذ و الطلاب ، و ما تعرفه من نقص لغوي و ضمور معرفي ، تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تجديد منهجي وإغناء معرفي . و التجديد المنهجي الذي يجب أن يقوم على أسس علمية لا بد أن يبنى على طرائق و أساليب علمية سليمة كالملاحظة و التجريب و التحليل والتطبيق ... مما يعني تلقيح موروثنا اللغوي في مجال تقديم الدرس اللغوي بالمنهجيات اللغوية الحديثة و ذلك بالاستفادة من المنهجيات الغربية المتقدمة في بحث و تعليم اللغات ، و اتباع المنهج العلمي الذي يستعمل في دراسة العلوم ، حيث لا مجال في مثل هذه الدراسات للعواطف و المشاعر ، فعلى المدارس اللغوية الإسلامية أن تتخذ مصادرها المعرفية من المرجعية الإسلامية . و الملاحظ في مقررات اللغة العربية غياب المنهج التجريبي و علم الأصوات الذي يدرس نظريا ، و افتقاد تعليم اللغة العربية لما يعرف بتكنولوجيا التعلم و المختبرات اللغوية ، مع الاستمرار في تكريس أبواب في النحو العربي و الصرف لم يعد لها مجال للتطبيق في لساننا مع الإكثار من ذكر الشاذ المخالف للقاعدة و الإسراف في ذكر العوامل النحوية و التحليلات في الدراسات اللغوية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق