الأربعاء، أغسطس 04، 2010

الفتنة نائمة...

بقلم : أحمد عمالك
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لست من محترفي الكتابة الصحفية و لا من مدمني قراءة الصحف . لكنني مهتم كسائر الناس بما تنشره الصحافة ، لأن لذلك صلة بالحقل الذي أهتم به علميا . ولا أزعم أنني أفهم السياسة ، بمعناها المتداول ، إلا في حدود ما يعنى به الرجل العادي . و لكنني حين تصفحت الجرائد ، استأثر باهتمامي عنوان موضوع الاستجواب الذي أجرته
جريدة "الأيام" (العدد 47، 25-31 يوليوز) مع الأستاذ أحمد الدغرني والذي صدرت به الصفحة الأولى ، مسطرة أبرز الأفكار التي تناولها.

لقد أحسست بأن الأستاذ المذكور تحذوه رغبة عارمة في تشخيص قضية الأمازيغية ، لأنه اعتبرها قضية الأمازيغ وحدهم . وهنا أريد ، بدوري ، أن أستأذنه في السؤال : من هو الأمازيغي؟ و أستسمحكم في استعمال لفظة بربر بدل أمازيغ ، و أنا لا أرمي إلى أي قصد ، سوى أنني مهتم بالتاريخ و لا أجد غضاضة في استعمال هذه اللفظة ، و التي أفرق بينها وبين لفظة barbares اللاتينية ، ذات الدلالة القدحية المعروفة.

من خلال قراءتي للتاريخ المغربي ، و تتبعي للقبيلة في المغرب ، ترسخت عندي بعض الملاحظات ، أورد أبرزها في النقط الآتية:

1 ــ يعرف المهتمون بالتاريخ أن المسلمين فتحوا بلاد المغرب (الكبير) ، و جيّشوا كثيرا ممن أسلموا من فرس و أقباط و أحباش و سودان و روم و بربر ... و من تم ، لا يستطيع أحد أن يزعم بأن المسلمين الذين قدموا إلى هذه البلاد كانوا عربا في غالبيتهم . و حتى على صعيد القيادة لم يكن للعرب السبق إلا في بدء الأمر . فقد برز قادة مسلمون غير عرب في هذا المضمار قبل متم القرن الهجري الأول ، و لا حاجة إلى الإتيان بالأمثلة ، لأن هذا من باب "ألف باء" المعلومات التاريخية.

و معلوم كذلك أن سكان المغرب القدامى رفضوا الديانتين ، اليهودية والمسيحية.

وعلى الرغم من طول المدة التي احتكوا خلالها باليهود و المسيحيين فلم يتهود أو يتمسح منهم إلا عدد قليل ، مع أن المصادر التاريخية ضنينة جدا في هذا المضمار.

و لما قدمت بعض الموجات القبلية العربية في القرون السادس و السابع والثامن لم يكن لها تأثير إلا على الصعيد الثقافي فقط.

و في السياق ذاته تأسست دول استندت إلا عصبيات قبلية بربرية حكمت البلاد طوال قرون ، تراوحت عهودها بين القوة و الضعف .. و دون الإسهاب في هذا الموضوع أود أن أذكر سيادة الأستاذ بأن المغاربة ، من عرب و بربر، لم يكونوا أبدا في حاجة إلى من يوقظ لديهم أي نعرة من النعرات - سواء منها الإقليمية أو الشعوبية- و إنما انتصر الجميع للإسلام ، و عدوه نعمة من النعم شكروا الله عليها في مؤلفاتهم التي تزخر بها الخزانات اليوم . كما تبنوه دينا شاملا ، بحيث لم يسجل التاريخ أي رد فعل من قبل هذا العرق أو ذاك ، لأنهم جميعا استشعروا << إن أكرمكم عند الله أتقاكم >> ...، الآية التي نسخت الأنساب والأعراق.

أجل لقد ارتكب بعض قادة المسلمين أخطاء ، الإسلام بريء منها ؛ منها على سبيل المثال حين أقدموا على "تخميس البربر" .. أو لما اعتبروا بعض الجهات كأنها فتحت عنوة .. و هذه الخروق ، التي وجدت من استنكرها في ذلك الوقت ، لم تكن لتقلل من أجلها المشاق ، و قدموا التضحيات الجسام، و لا ينكرها إلا جاحد أو معاند << رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه >> .

إن الذين هولوا تلك النكت - من أضراب روبير مونطاني و هنري طيراس وجورج مارسي ، و من تبعوهم بالخطأ – و نفخوا فيها ، لجعل الصراع عربيا بربريا ، كانت تحركهم خلفياتٌ استجلاها باحثون مغاربة و تعقبوها منذ زمان ، وبيّنوا أن أقل ما يقال عنها أنها مغرضة.

و لما أفل نجم العصبيات و ظهرت الدولة الشريفة جندت العرب و البربر ، في ذات الوقت ، لإعادة الوحدة إلى البلاد و مواجهة المحتلين .. و حين تمت الإشارة ، في حالتين معزولتين ، إلى المواجهة التي دبرت لمصادمة البربر مع غيرهم لم يكن يحركها أي هاجس عنصري لدى مهندسيها ، و لكنهم كانوا يسعون إلى ضرب عناصر تبين عنادها . و حتى لما أثيرت قضية صنهاجة الأطلس المتوسط لم تكن العنصرية أبدا هي المحرك . و هذا للحقيقة و التاريخ ، و دون الدخول في مزايدات "تعالمية" أو إيديولوجية.

2 ــ لقد نزلت بالمغرب مجاعات هالكة و أوبئة فاتكة قضت على الحرث والنسل، و أنا على يقين أن الأستاذ يعرف هذا الموضوع جيدا . و من تم فإن كثيرا من القبائل أضحت مضطرة إلى التنقل ، إما فرارا من الوباء و إما بحثا عن الغذاء ، الأمر الذي أحدث هجرات قبلية واسعة - من الشمال إلى الجنوب ، والعكس ، و من السهل إلى الجبل ، و العكس ... و هناك محطات تعد علامات بارزة في هذا المضمار منها على سبيل المثال : الطاعون الأسود و المجاعات والأوبئة التي تتالت على المغرب طوال القرون الموالية ... فكانت تلك الكوارث سببا في تغيير خريطة الديموغرافيا في بلاد المغرب عدة مرات ... و من هنا يحق للمتتبع أن يعتقد أن ذلك ترتب عنه اختلاط واسع بين العرب و البربر ، و ذوبان البعض في البعض الآخر ، و انصهار الجميع في بوثقة واحدة . و إذا رجعتم إلى كتب الرحلات سوف تجدون أبا سالم العياشي ، و محمد بن سليمان الروداني ، وأبا مدين الدرعي السوسي ، و محمد بن أحمد الحضيكي السوسي لا يميزون بين البربري و العربي ، و لكنهم يقولون << أهل مغربنا >> ، ليميزوا بين المغرب والمشرق ، و يتميزوا بهويتهم ، طبعا هناك بعض "الجزر" ، في أماكن محدودة ، حافظت على بعض "الصفاء" يصعب على الباحث أن يضبطها في ظل المعطيات الحالية.

و لعل النتيجة المعتدلة التي يحق الحديث عنها هي أن أهل جهة ما كانوا عربا فأضحوا بربرا ، و أهل جهة أخرى كانوا بربرا فتعربوا مع توالي السنين.

3 ــ يعرف الباحثون أن بعض الحكام أقدموا على ترحيل قبائل و فرق من جهة إلى أخرى . و عمد بعضهم إلى تفكيك بعض القبائل ، و تشتيتها لكسر شوكتها ، و كسر عصبيتها و إضعافها . و لا نعدم أمثلة في هذا المقام . تذكروا معي: أولاد جرار و ، أولاد دليم ، و تكنة ، و هشتوكة ، و جزولة ، و أيت يمور و مجاط ...

و من هذه الأمثلة اخترت لكم أيت يمور : يذكر التاريخ أن هذه القبيلة انطلقت من مشارف الصحراء لتقضي مدة غير يسيرة في أعالي ملوية ، ثم تزحف إلى الأطلس المتوسط بعد ذلك ، ليتم إنزالها بقرار سياسي - عسكري في دير تادلة. و من هنا تم ترحيل فرق منها إلى الحوز . هؤلاء من البربر – صنهاجة – و قد حافظ أحفادهم ، الموجودون اليوم غربي مراكش ، على كثير من قسمات أيت يمور القاطنين بالجبال ، لكنهم لا يتكلمون البربرية ، و يجهل معظمهم أصلهم ، ولعلهم ليسوا بحاجة إليه لأنهم مغاربة مسلمون كسائر الناس في هذا البلد ؛ وماذا يزيدهم لو علموا أصلهم أو جهلوه ؟..

إن هويتنا جميعا هي هوية إسلامية مغربية ، و هي ، كذلك ، ليست في حاجة إلا لمن يدعمها ، من عرب و بربر و غيرهم ، كما دعمها أجدادنا.

و إذا أردنا أن ننبش في الحساسيات يمكن أن نفسح المجال للقول إن المغرب يتكون من أعراق أخرى منحدرة ، من برتغاليين و إسبان و سودان ويهود و غيرهم ، ممن أسلموا و نسوا أصولهم العرقية الإقليمية ، و لربما تظهر، غدا أو بعد غد ، أعراق أخرى يكون من حقها أن تتقدم بمطالب لا قبل لنا بها سيما وأن شعارات "الحرية" و " تقرير المصير" ، إلخ ... غير معدومة ، و لا تجد إلا من يسندها و يدعمها سياسيا و عسكريا.

و المسألة الثانية التي أرى -إن لم يجانبني الصواب - أنها جديرة بالمناقشة مع الأستاذ الدغرني ، هي اللغة العربية.

ليس من باب التزلف أن أصارحكم أنني في حاجة ماسة إلى تعلم البربرية ، لأنها بالنسبة لي ضرورية لفهم جوانب من تاريخ بلادنا ، سواء فيما يتعلق بأسماء المواقع و الأماكن ، و النبات و الطير ، أو سائر مكونات الحياة البيولوجية . و الحفاظ على البربرية مسألة لا جدال فيها ، لأنها جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية الحضارية ، ما دام المغرب مسلما حرا موحدا . لكن هيمنة العربية لها مرجعية أصلها ثابت و فرعها في السماء ، فهي لغة الوحي الموجه للعالمين ، و ليست اختيارا شخصيا لفرض هيمنة عرق على عرق آخر . فالمسلم في الصين و ماليزيا و جزر الهواي مدعو إلى تعلمها . و قد تحقق هذا يوم أخلص المسلمون لله . و لنفرض أن العربية كانت مسألة إجرائية فقط ، كالقشتالية في إسبانيا و الفرنسية في فرنسا و الإنجليزية في المملكة المتحدة و الروسية ..، - مع أن القياس مع الفارق طبعا - هل من الصواب و من العلمي أن نطرحها ؟

سيادة الأستاذ ، إن العربية هي اللغة التي ولدت كاملة ناضجة ، لا تحتاج إلى تعلم و عكوف لفهمها و تذوقها . و أنا أشاطركم الرأي عن دعاة التعريب ، لأن العملية لا تعدو تعريب الحرف فقط ... و هذه قضية معروفة . و إن من المعروف أن العلماء البرابر قدموا خدمات جليلة للغة الضاد ، و أنا على يقين أنكم تعرفون الكثير منهم ، بدءا ببوجاج بن زلو ، مرورا بالزواوي و ابن آجروم ، وصولا إلى الإفرانيين ، و اللائحة طويلة...

و للإشارة كذلك ، لم تكن العناية بالعربية قصرا على الرجال من البربر، بل لقد نبغت النساء أيضا . منهن حواء بنت تاشفين ، أخي يوسف بن تاشفين لأمه ، و هي المدعوة حواء اللمتونية تمييزا لها عن حواء بنت إبراهيم بن تيفلوت . فقد كانت الأولى بارعة في الشعر ، ناظرت الأدباء و الشعراء ، و كانت الثانية مولعة بقراءة القرآن و محاضرة الأدباء ، و كانت لها أخت ، اسمها زينب اشتهرت بحفظ الشعر . فارجعوا إلى كتب التراجم و الطبقات لتصدقوني أو تكذبوني.

كما لا أشك في أن الأستاذ الدغرني يسلم معي بأن مستقبل الدول في الدعوة إلى تقوية الجبهات الداخلية ، للتصدي إلى دعاة التشرذم و التفرقة ، ومحاربة الانفصال و دواعيه ، مع العمل على بناء دولة قوية يسندها العدل...

أنتم تعلمون جيدا أن البشرية لا يمكن أن تنسى الشرخ الذي أحدثه التحول الذي وضعه أتاتورك حين أقدم على نسف تاريخ بأكمله ... و القصة معروفة أيضا. إن التاريخ لا يتكرر و لكن الأخطاء تتكرر . و لا تفوتني الفرصة قبل أن أهمس في أذن الأستاذ ، أن اللغة ليست ذات أهمية في تحديد مفهوم الأمة ، وأحيلكم على ما كتب في هذا الموضوع . و من تم ، أستسمحكم في رفض مفهوم الأمة الأمازيغية ، فاللسان و العرق و اللون ليست أبدا محددات أساسية لمفهوم الأمة يا رجل القانون . هل جمعت اللغة بين المملكة المتحدة و إيرلندا ؟ و ماذا لو انقسمت الدولة الأولى إلى أربع أمم ، و فرنسا إلى خمس ، و سويسرا إلى ثلاث ، و بلجيكا ، و كندا ... إذا كانت اللغة هي أساس الأمم...

إن ما يجمع أو يفرق هو العقيدة ، و هي أقوى الوشائج التي يمكن أن تجعل الصفوف متراصة أمام الأعاصير القوية ، التي إن أرسلت على قوم فإنها لا تبقي ولا تذر.

و من باب الإحماض أقول لكم إن دول العالم لو سارت في نفس المسار لارتفع عدد العواصم و العملات و الأعلام إلى حد لا يجوز تصوره ، فكم ستدوم دورات كأس العالم القادمة في ظل هذا التعدد ؟

و المسألة الثالثة التي لا يجوز التعامل معها بعدم المبالاة هي قضية السيبة. و الملحظ الذي يستوقف أي باحث قبل الخوض في المسألة يتعلق بمفهومها . فما يتبادر إلى الذهن أنكم تقرنون بينها و بين البربرية ، أي السيبة البربرية ، و هي عبارة ارتبط تداولها بالإستوغرافيا الاستعمارية ، حين كان المنظرون من الكتاب الفرنسيين أمثال إدمون دوتي و ميشو بيلير و روبير مونطاني و أودينو يضعون اللبنة فوق الأخرى لبناء صرح المسألة التي اعتقدوا ــ خاطئين - أنها تكون سببا في نسف وحدة المغرب ...

و لنسلم معكم جدلا بالسيبة مفهوما متعارفا عليه ، و واقعا في نظر الرعايا و في نظر الحكام على حد سواء ، فهي ليست قصرا على البربر ، فقد عرف التاريخ "سيبة" قبائل غير بربرية ، بل ماذا يمكن القول عن المدن التي رفضت بيعة بعض السلاطين ؟ أين تضعون "سيبتها" ؟

إن الحديث عن السيبة ينبغي أن يتسم بالاحتياطات المنهجية التي لا يساورني شك في أن الأستاذ الذغرني يضعها في الحسبان . و السبب معروف ، يجب ألا ننساق في النبش في بعض القضايا التي لا يفضي البحث فيها إلا إلى الالتقاء مع رواد الاستغروفيا الاستعمارية ، من علماء اجتماع و إثنوغرافيين وإثنولوجيين ... و قد تصدى الكُتاب المغاربة للرد عليهم طوال الثلاثة عقود الماضية ، و نقضوا آراءهم عروة عروة...

أفيدوني أيها الأستاذ ، هل عرفتم قبيلة بربرية واحد ــ عبر التاريخ - أعلنت رفضها اللغة العربية ، أو رفضها للإسلام . نعم كانت بعض القبائل ترفض الخضوع و تتمرد ، و قد تقدم على مواجهة ممثلي المخزن بالسلاح . و هذا ليس قصرا على القبيلة البربرية ، بل عرف التاريخ قبائل عربية فعلت هذا أيضا .. ففي عبدة و دكالة و الشاوية و الرحامنة ، إلخ ... و حتى في الجزيرة العربية ، مهد العرب. لكن القبيلة ــ سواء منها البربرية أو العربية ــ لم تجاهر بالردة ، أو رفض الحاكم لأنه من هذا العرق أو ذاك . لقد صارعت القبيلة من أجل الماء و المرعى والمجال ، و من أجل التحرر من ثقل الجباية و استبداد المخزن ، و من أجل ذلك ، أيضا ، دخلت في نزاع مسلح أحيانا مع جيرانها ، و حتى مع المخزن في وقت توازن القوى . و لا أخالكم تحملون كلامي على عواهنه ، فإنني أخاطب عقلا نيرا لا أحتاج معه إلى التوضيح الفاضح.

و من ثمة ، فالسيبة لم تقتصر على البربر ، لكن يمكن التمييز بين السهل و الجبل. كما ينبغي إدخال مسألة السيبة هنا ، حيث يختلف الأمر من سلطان إلى آخر ، و من عهد إلى عهد آخر . أما انعدام سلطة المركز ، و خضوع البربر للسلطة الدينية فقط ، هكذا مطلقا ، فهذه كلها من مخلفات النظرة الاستعمارية التي عفا عليها و على أصحابها الزمان . لقد كانت الإدارة المغربية بعيدة كل البعد عن أن تراقب كل القبائل ، و أن تتحكم فيها ، مثلما هو الشأن اليوم . لقد كانت قبائل كثيرة متروكة إلى نفسها ، في السهول و الجبال ، بله قبائل الأطراف البعيدة . لكنها تخطب باسم سلطان الوقت و تتعامل بالعملة الرائجة في العاصمة ، وتستجيب إذا طلب منها أداء واجب الدفاع عن حوزة البلاد . و هذا واقع شهد به التاريخ ، من الانطلاق إلى الأندلس سنة 92/711 إلى التوجه إلى الصحراء ، في المسيرة الخضراء سنة 1975 . و لازال المغاربة مستعدين لتقديم التضحيات ، بل يعتبرون ذلك من الواجب ، للدفاع عن حياض وطنهم . و لطالما أثار المغاربة إعجاب الشعوب الأخرى بتمسكهم بوحدتهم و هويتهم ، لا لشيء إلا لأنهم متمسكون بدينهم . نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومن أراد العزة في غيره أذله الله.

أعتقد أن الأستاذ الدغرني قد انساق وراء بعض الكتابات ذات النـزعة الأنتروبولوجية ، أو علم الاجتماع السياسي ، و استهوته حتى أعجب بها ، فظن أنه وجد فيها ضالته ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل ...

و ليسمح لي سيادة الأستاذ لأقول له إن ذلك من باب الإرجاف الذي تكون له تبعات خطيرة على مستقبل الأجيال القادمة ، التي " قد تبتلع كل ذلك على الريق " ، و لا يعود على البلاد إلا بالوبال...

و المسألة الرابعة ترتبط بعلاقة الدولة بالدين ، و هي مسألة جوهرية . حين يقول الأستاذ الدغرني إن البربر لم يكونوا على مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ، يرتكب خطأ تاريخيا فادحا ، و يجني على أناس سوف يأخذون بتلابيبه يوم الحساب اقتصاصا منه . و من أجل ذلك أسائلكم عن المذهب الذي تبناه المرابطون ، أول أكبر دولة بربرية في المغرب .. هل تجدون من هام بكل ما هو مدني - نسبة إلى المدينة المنورة - من المسلمين أكثر من المغاربة ، حتى غالوا في ذلك ؟ فنظموا المدائح الطويلة و أعدوا أسنى الهدايا ، و بجلوا كل من انتمى إلى الجناب النبوي ، بل لا أظن أن سكان قطر من أقطار الدنيا تسموا بالمدني أكثر من المغاربة ، و هذا أيضا سر من أسرار اعتنائهم بقراءة ورش ، شيخ الإمام مالك في القراءات .. و لي كامل اليقين أنكم تعرفون كل هذا.

لكن حيث تقررون أن البربر تبنوا مذاهب الإباضية و الخوارج و الشيعة تسقطون في الرؤية الضيقة ذات النـزعة المغرضة الواضحة . و هذا أيضا خطأ علمي فادح في تقديري ، ذلك أن الكيانات السياسية التي تبنت مؤقتا المذاهب غير السنية كانت محدودة في المجال و الزمان ، و الأمثلة معروفة : بنو مدرار في سجلماسة ، و بنو رستم حوالي تلمسان ، و الفاطميون في أفريقيا ، أما الأدارسة والموحدون ، فلم يكن تشيعهم واضحا ، و حتى إذا سلمنا بذلك ، فإنه لم يكن مستمرا . و على فرض أن تلك المذاهب قد سادت في مرحلة ما ، فإنها بادت و لم تخلف ما يذكر . و قد اختار المغاربة - من عرب و بربر - أحد مذاهب أهل السنة و الجماعة ، بل منهم من دعا إلى تجاوز المذهبية.

إن المذاهب التي تدعون إليها لم تكن أبدا متفتحة كما زعمتم ، بل العكس هو الصحيح ، فالمذهب المالكي أقل تشددا من التشيع و الإباضية . ففي الوقت الذي قبل فيه مالك كل حديث صحيح ، و قولته في هذا الباب مشهورة ، رفضت المذاهب المذكورة أحاديث صحيحة ، لا لشيء إلا لأنها مروية عن صحابة معروفين . و قبل المذهب المالكي بالعرف ، على أساس ألا يصطدم مع الشرع ، أما المذاهب التي تدعون إليها فقد تشددت حتى كانت سببا في تشتت الأمة ، بل أدخل بعضها إلى الإسلام من التعاليم ما أثار سخرية الأصدقاء و الأعداء على حد سواء.

و فضلا عن هذا و ذاك ، قولوا لي متى ترتب عن تطبيق المذهب المالكي في بلاد المغرب حيف تجاه البربر ؟

لقد لحق الظلم جميع المغاربة ، و هذا ناتج عن السياسات الخرقاء التي نهجها الحكام ، و ما تعرضت إليه بعض الجهات ، كان ناتجا عن بيئة المخزن الهشة ، و عن الضغوط التي عانى منها هذا البلد من لدن الجيران ... و من ثم ، فلا يمكن فصل المسائل عن السياقات التي انتظمتها ، و الملابسات التي أحاطت بها.

سيادة الأستاذ ، أنتم تدعون إلى الظاهرية ، فماذا تقصدون ؟ إن علماء المسلمين قد حاولوا وضع حد للمذاهب و النـزعات و الملل و النحل خوفا من التفرقة ، فدعوا إلى السنة و الجماعة ؛ و قد سبقت الإشارة إلى أن بعضهم دعا إلى تجاوز المذهبية ما دامت كلها تلتمس من الوحي ، و انحسر الأمر في العصر الحاضر حين سخرت التقنيات الحديثة لخدمة الشرع ، فتبين السليم من السقيم.

هذا بالإضافة إلى أن الدعوة إلى التشيع و المذاهب الأخرى - في المغرب الكبير - هي دعوة تبناها أعداء الإسلام من مستشرقين و باحثين غربيين ، لمحاربة الإسلام السني لأنه هو الأوسع انتشارا ، و هو الأقرب إلى الوحي ... بدعوى محاربة التطرف و الأصولية ، و ما شاكل ذلك من مصطلحات و مفاهيم أريد بها باطل. كما أن الدعوة إلى تلك المذاهب - فضلا عن ذلك كله - هي من قبيل الفرار إلى الأمام .. أما الحقيقة ، فلا يعلمها إلا الدعاة ، حتى لا أقول إن وراء الأكمة ما وراءها.

فالإسلام واحد ، يدعو إلى التوحيد و التوحد ، و لا يقبل التقسيم أوالتبعيض ، فهو دين الفطرة و اليسر و التسامح ، و العيب ليس فيه و لكن في المسلمين بمختلف أعراقهم ، و هذا شأن آخر.

و أعتقد أن ما دفع و يدفع باستمرار إلى التقول على الإسلام ناتج بالدرجة الأولى عن مواقف مبدئية ، لأنه يشكل خطرا على أصحاب المصالح الضيقة ، وبالدرجة الثانية عن سوء فهم.

إن الدعوة إلى التشيع و الخارجية و الإباضية ، و ربما الرجوع إلى برغواطة ، لا يفيد بلدا تتربص به الدوائر ، و يرسف في قيود الأمية و البطالة وقلة وسائل التطبيب و فساد الإدارة و غياب العدل.

إن المغرب في حاجة إلى من يبنيه على أسس سليمة قوية و يدعم وحدته ضد المتربصين ، أما إحياء النعرات فهو يندرج في سياق إيقاظ الفتنة .. و هو أمر منهي عنه طبعا وشرعا.

و المسألة الخامسة ، و أعتبرها من الدواهي الكبرى ، لأنها قضية جميع المسلمين ، بل قضية الإنسانية جمعاء ، و هي القضية الفلسطينية.

إن المرء ليقف مشدوها أمام الموقف الذي عبرتم عنه ، في آخر شيء تم استجوابكم حوله ، حتى خُيل لي أنكم سُحرتم ، أو ألمّ بكم صارف صرفكم عن الطور ، سيما و أنتم رجل قانون لا ينبغي إلا أن يقف إلى جانب الحق والمشروعية . قد يخيل إلى المرء حين يسمع ما قلتم بالحرف : << لا قضية لنا نحن الأمازيغ في الشرق الأوسط و لا أرض لنا نتفاوض عليها مع اليهود ...>> ، و لا أعتقد إلا أنكم غيرتم هويتكم بهوية أخرى.

و هذا أمر مستغرب منكم لأن المسلم مأمور بألا يسلم أبدا أخاه المسلم أويخذله ، مهما كانت الخلافات في الرأي ، ما دامت العقيدة واحدة.

ــ ثم كم تمثلون أيها الأستاذ ؟

ــ هل قمتم باستفتاء خوّلكم أن تتحدثوا باسم البربر ؟

ــ و من منحكم صلاحية الحديث باسم الآخرين ؟

أعتقد أنكم تزيدتم على أناس لا يشاطرونكم الرأي ، و أنتم تعبرون عن مواقف أقل ما يقال عنها إنها رعناء.

اتقوا الله أيها الأستاذ ، و توبوا إلى بارئكم مما صدر عنكم غفلة ، فإن الظرف دقيق و المسلمين في وضع لا يحسدون عليه ، و إن الفتنة نائمة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق