الأربعاء، أغسطس 04، 2010

الظهير البربري و الظاهرة الأمازيغية

بقلم : أحمد دخيسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ



تقديم
استطاع الغرب بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية أن يفرض منظوره الخاص فيما يتعلق بالديمقراطية ، و حقوق الإنسان ، و المجتمع المدني ، والإرهاب … و استطاع أن يفرض كل هذه الأمور على أنها مرجعية كونية لا تقبل التجزيء رغم أن تلك المنظومة من حقوق الإنسان لم تجرم الاستعمار باعتباره أبشع انتهاك للحق
الإنساني عرفه التاريخ . السبب هو أن الدول التي صاغت المنظمة الحقوقية "الكونية" هي المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ، وتلك الدول ليس لها أدنى رصيد أخلاقي لتجريم الاحتلال.



ففرنسا مثلا قتلت مليون مدني جزائري و أقامت تجارب نووية في صحراء الجزائر . أما بريطانيا ، المملكة العظمى "التي لا تغيب عنها الشمس" ، فكانت وراء أكبر مأساة تعيشها الأمة الإسلامية و لا تزال بزرعها الكيان الصهيوني في قلب الأمة ، في أولى القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين فضلا عن ماضيها في الاستعمار و التقسيم.



في حين أن أمريكا "زعيمة العالم الحر" قامت على أطلال حضارة عريقة لعشرين مليونا من الهنود الحمر ، و استجلاب عدد كبير من الأفارقة السود عبيدا ليخدموا الرجل الأبيض الحر النبيل ، ثم المساندة اللامحدودة حد التماهي للكيان الصهيوني في كل جرائمه و مجازره فضلا عن احتلال و قصف بلدان إسلامية كثيرة (العرق ، و أفغانستان ، و السودان ، و الصومال ...) .



و لما كان الوجود العسكري الدائم و الجيوش الجرارة مُكْلفا في العتاد والأرواح ، اعتمدت الدول الاستكبارية أساليب أخرى أقل تكلفة و أشد فتكا عبر النخب المغربة في البلدان الإسلامية التي تؤتمن على تنفيذ المخططات (1) وتكريس التبعية .



كان لا بد للمستعمر ، قبل أن يخرج بجيشه من أجزاء الأمة أن يقسم جسدها إلى كيانات زيتية تفصلها حدود سياسية مصطنعة . كل كيان يُعلَن دولة وطنية مستقلة كاملة السيادة فأُعيد بذلك تشكيل ملامح الأمة و خريطتها على أساس كيانات مشلولة معادية لبعضها البعض تابعة دائمة لسيدها الأول الذي تجمعه بها أواصر تاريخية مهمة (2) .



الآن لم يعد ممكنا إخفاء أزمة الشرعية للنظام السياسي العربي الذي أفرزته مرحلة ما بعد "الاستقلال" ، حيث عاشت الشعوب طوال هذه الفترة على هامش الحياة السياسية ، و الاقتصادية و الاجتماعية إضافة إلى ما يسميه الدكتور سامي الخزندار بــ << التعارض ما بين الانتماء الثقافي و الأيديولوجي للشعب وللأمة و ما بين الانتماء الثقافي و الأيديولوجي للسلطة الحاكمة . فالشعب يغلب عليه الانتماء الحضاري العربي و الإسلامي ، في حين أن السلطة السياسية يغلب عليها الانتماء الثقافي الغربي >> . كما أن الحدود القفصية بين البلدان الإسلامية لم ترسم على أسس موضوعية واضحة ، إنما هي حدود سياسية تمزق أطراف الكيان الواحد ، فُرضت قصرا بموجب اتفاقيات استعمارية (إكس ليبان ، و سايكس بيكو ) . ففي الوقت الذي يتجه فيه الغرب نحو الاندماج و التكتل ، تتجه البلدان العربية و الإسلامية نحو التشظي و الانشطار إلى كيانات تزيد من خروق الثوب الواحد.



أما اليوم فقد بلغت الإهانة الميغاإمبريالية (3) حدا لا يطاق ، و تعرضت المجتمعات الإسلامية لهزات عنيفة بسبب الاستشراق و التبشير و الحروب الصليبية و الاستعمار المباشر . كما أصبحنا نرى اليوم كيانات وهمية تتناسل كالفطريات متغنية بهوية مميزة يجب الحفاظ عليها باسم المواثيق الدولية للحقوق السياسية و المدنية للأمم المتحدة . ليس هناك قطر من أقطار الأمة خال من ذلك (مسألة دارفور في السودان ، و الصحراء في المغرب ، و المسألة الكردية في العراق و التقسيم الطائفي ، و المشروع الطائفي في لبنان ، و المسألة الأمازيغية في المغرب و الجزائر ، و قضية فلسطين المركزية ، و مشاكل الحدود بين كثير من الأقطار … ) ، حتى أننا نجد علاقة بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني أفضل بكثير من علاقتها مع دول عربية و إسلامية أخرى .



الآن ، و بعد ستة عقود من الاستقلال أو تزيد ، هل قطعت دولة الاستقلال (4) مع الاستعمار؟.. هل تحقق الأمن الثقافي الحضاري و الاقتصادي موازاة مع تشكل القطر السياسي ؟.. هل هذا القطر يولي أهمية للأمن الحضاري مثلما ينهمك في بناء و حفظ أمنه القومي ؟.. هل الصراعات الداخلية في الدول العربية مجرد تعبير عن حراك داخلي تجلى في الواقع الذي فرضته الأنظمة الحاكمة المستبدة ، أم أن المسألة استمرار للحبل الذي فتله و يفتله المستعمر و هو يلعب بمهارة على الفسيفساء و الخصوصيات الثقافية و الأقليات و الاحتقانات الاجتماعية و استغلال ذلك في اتجاه خلق صراعات داخلية و إدامتها ؟.. هل هي مجرد ثورات سياسية في وجه الحاكم المستبد ضد الجوع و المرض و التهميش ؟..



لابد من التأكيد على أنه لا يمكن التفريق بين تحقيق الأمن بمفهومه الأمني و بين تحقيق الأمن الاقتصادي و الحضاري . هذا الأخير إن وجدت فيه ثغرات منها ينفذ المسخ و الاستلاب و بالتالي يكون الحديث عن التنمية الاقتصادية هراء و هرطقة . لقد تم زرع الكثير من الألغام الثقافية لتغذية الصراعات العرقية الطائفية و السياسية لإبقاء المجتمع الواحد رهين التشرذم بشكل يستنزف كل قواه و يهدر طاقاته .



كثير من المشاكل الداخلية المصطنعة دُوِّلت فأتاحت لدول كبرى التدخل لتقعيد الصراع و تعقيده و من ثمة إطالة أمده ، فكثيرا ما تقاطعت مشاكل الصراع مع مصالح الكبار الذين يجيدون اختلاق الأزمات و الركوب عليها و هذا ما أبقى الأمة على التشتت وحراسة الحدود السياسية و الانهماك في الأزمات الداخلية بدل التخطيط للتنمية الحقيقية << فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ >> ( المؤمنون ـ 53 ) .



في ظل هذه الظروف ، لا يمكن فصل المسألة الأمازيغية عن هذه "المشاكل الداخلية المصطنعة" التي ظهرت كظاهرة بفعل التدويل أكثر من كونها حراكا اجتماعيا لا يريد أكثر من تحسين الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية . و بالتالي فالموضوع يكتسي أهميته خاصة في الآونة الأخيرة التي كثر فيها اللغط و اللغو حول المسألة الأمازيغية و توظيفها في اتجاهات معينة .



من نافلة القول التذكير أن تناول هذا الموضوع ليس بدوافع أيديولوجية ولا لتسجيل مواقف سياسية و لا حتى من باب الترف الأكاديمي و التخمة الثقافية، بل هي الضرورة الدعوية التي تقتضي المساهمة في الفكر الإسلامي و نقد التيارات التغريبية بما فيها الحركة الثقافية الأمازيغية . كما يجب التذكير أن موضوع الدراسة و النقد ليس الأمازيغية لغة و ثقافة و حضارة ، الموضوع هو الحركة الأمازيغية التي أريد لها بفعلة فاعل أن تكون شقاقا بين أبناء الوطن الواحد و الدين الواحد . كل هذا الغبار التي أثارته هذه الحركة حول نفسها دليل على التخبط و التوظيف الخارجي . عندما تواجه هذه الحركة بالأسئلة التي لا تهتم بها ، سينكشف القناع و سيتبين ما كان تحتها : فرس أم حمار .



مطالب الحركة الأمازيغية بين الثقافي والسياسي
تتقطر أدبيات الحركة الأمازيغية بمداد كثير يصور الحركة في << مبادئها السامية >> على أنها << مشروع لنبذ الإرهاب الفكري >> (5) ، و أنها مشروع لمقاومة الاستلاب الثقافي و الإمبريالية اللسانية و إخراج بلاد <<تمازغا>> من << الهيمنة الجائرة للغات المفروضة قسرا >> (6) .و في معرض حديثه عن الحركة الأمازيغية ، ذكر مصطفى عنترة (7) أن الحركة الأمازيغية حركة احتجاجية مدنية ، و اجتماعية ، و ثقافية ، و هوياتية ، وسياسية . و حدد مبادئها في أربعة هي :



1 ــ ديمقراطية : لأنها << واعية كل الوعي بأن مطالبها لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل المشروع الديمقراطي >> .

2 ــ حداثية : في << مشروعها الثقافي و السياسي >> .

3 ــ نسبية في تصوراتها : << لكون الأمازيغية هي ثقافة عقلانية تتميز بتعارضها مع كل ما هو مطلق >> .

4 ــ علمانية : على اعتبار << أن الأمازيغية هي ثقافة علمانية في الجوهر >> .



كما حدد مطالب هذه الحركة في :



• دسترة الأمازيغية لغة وطنية و رسمية في الدستور .

• اعتبار الأعراف الأمازيغية مصدرا من مصادر التشريع الوطني ( إلى أي حد يتناسب هذا المطلب مع مبدأ الحداثة الذي تؤمن به الحركة الأمازيغية في الألفية الثالثة ؟ ) .

• فصل الدين عن الدولة و ضمان حرية المعتقد ( و كأن المغرب يعج بالأديان و الأقليات التي ينبغي ضمان حرية ممارسة معتقداتها ) .

• تمتع الجهات بالمغرب باستقلال / حكم ذاتي .

• التنصيص على سمو المعاهدات الدولية على القانون الوطني و جعلها تطبق بشكل مباشر !!!



عندما نتحدث عن الحركة الأمازيغية فالأمر لا يتعلق بتنظيم عرقي يضم و يحشد كل الأمازيغ ، بل هي مجرد عنوان يضم تنظيمات و جمعيات مختلفة ومتناقضة أحيانا كثيرة . عدم وحدة أطياف الحركة الأمازيغية لازمها منذ تأسيسها << من خلال التشنجات و التصدعات و المشاكل التي تحملها هذه الحركة داخلها>> (8) .



كما أن تلك الأطياف << لا زالت تعاني من التشرذم الذي يميز صفوفها ، بحيث باتت طبيعة الصراعات و التطاحنات التي تشهدها مختلف مكوناتها تشكل إحدى نقط ضعفها >> (9). كما يلاحظ << فقدانها لمشروع مجتمعي متكامل>>(10) و العجز عن << التغلغل داخل النسيج الحزبي >> ، إذ أن هناك أحزابا كثيرة و هيئات عديدة و جماعات إسلامية تضم قاعدة أمازيغية عريضة رغم أنها تتعارض جذريا مع المواقف الإيديولوجية للحركة الأمازيغية .



هذه المبادئ و<< الطروح التي تتبناها ( الحركة الأمازيغية ) تكاد تكون مفصولة عن القاعدة الشعبية … و هذا جانب يبعث الأسف في النفوس ، لأنه في الوقت الذي يكتوي الأمازيغي العادي من آفات الغلاء و البطالة و ضنك العيش ..، يسرح أغلب المثقفين الأمازيغيين في عوالمهم الطوباوية و خطاباتهم الأيديولوجية ، التي لا تأخذ من واقع الحياة و الأحداث إلا ما يخدم رؤاها الفكرية و السياسية >> (11) .



هذا الخليط غير المتجانس من المكونات لا يلعب لصالح الحركة الأمازيغية بل يعمق الخلاف و يفرق الخطاب . و يمكن في هذا الصدد رصد خمسة توجهات أساسية داخل نسيج الحركة الأمازيغية :



1. اتجاه سياسي يناضل من أجل « أمازيغية المغرب » ، ضمن الإطار الرسمي و هو العروبة و الإسلام ، هذا الاتجاه يلعب على الورقة الأمازيغية في اللعبة الانتخابية ( عبد الكريم الخطيب و المحجوبي أحرضان ) .

2. اتجاه جمعوي يتخذ من العمل الجمعوي واجهة للنضال ، للتأثير على الرأي العام في اتجاه الوعي « بهويته » . و منذ انطلاقة هذا العمل الجمعوي و هو يراوح بين الثقافي و السياسي حيث أن أغلب الجمعيات الأمازيغية هي جمعيات ثقافية ذات صبغة سياسية .

3. اتجاه التدويل المرتبط ببرامج دولية دَوَّل من خلالها المسألة الأمازيغية كالمشاركة في مشروع الشعوب الأصيلة الذي أطلقته الأمم المتحدة بعد انعقاد مؤتمر فيينا صيف 1993 حول حقوق الإنسان . حاول هذا التيار الأمازيغي الاستفادة من ذلك المشروع و تسويق المسألة الأمازيغية في العالم على أنها قضية شعب مهدد في وجوده. و راهن هذا التوجه كثيرا على الدعم الخارجي خاصة الفرنسي والإسباني ( حاليا الدعم الصهيوني ) عبر منظمة الكونغرس العالمي الأمازيغي و ذلك لإبراز << مظلومية بلاد تمازغا >> .

4. اتجاه أكاديمي مؤسساتي يفضل العمل على الواجهة العلمية و تأليف الكتب و الأبحاث (محمد شفيق ، و أحمد بوكوس ، و العاملون بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية .

5. اتجاه طلابي راديكالي و هو تيار عفوي غير منظم لا يزال يعاني من الفراغ الفكري و عدم وضوح الرؤية .



هذه التوجهات و المكونات منقسمة على نفسها حول طريقة العمل بين من يفضل العمل الثقافي لأن مسألة بحجم الثقافة و الهوية لا يمكن أن تسيّس إلى هذا الحد ، و بين من يرى أن المسألة لا يمكن إلا أن تكون أم السياسات . و الواقع أنه لم << تكن القضية الأمازيغية في يوم ما مجرد مسألة ثقافية محضة ، فقد كانت دائما وراء المطالب الثقافية و اللغوية التي رفعتها الحركة رؤية سياسية>>(12). و هذا ما أعطى الأولوية دائما للعمل السياسي على الثقافي ، فالإطار السياسي هو بمثابة المرجع الإيديولوجي الذي ينظر في حين يبقى الإطار الثقافي مجرد وعاء للتفريغ و آلة للتنفيذ. كما أن الجمعيات الأمازيغية ، رغم أنها تسمى ثقافية ، تمارس سياسة ثقافية لتمرير ثقافة سياسية معينة فتدحرجت مطالب الحركة الأمازيغية من مجرد المطلب الثقافي الشعبوي الفلكلوري الذي يهدف إلى الترويح عن ثقافة عرقية مكبوتة تاريخيا إلى المطلب السياسي .



وسط هذا الجدال ، جاء بيان محمد شفيق ( بتاريخ 1 مارس 2000 ) حول << الاعتراف الرسمي بأمازيغية المغرب >> ليحرج المنظور الثقافي حيث انتهى المطاف إلى تأسيس << التكتل الوطني الأمازيغي >> سنة 2002 ، و هو جمعية ذات صبغة سياسية لم يعترف بها رسميا . و في لقاء بوزنيقة ( ماي 2000) أثيرت بحدة مسألة الإطار السياسي للأمازيغية و خلقت خلافا حادا بين أنصار الطرح الثقافي الجمعوي و دعاة الإطار السياسي . فالجمعويون لا يرون جدوى في تحزيب الأمازيغية لأن مسألة تأسيس حزب سياسي أمازيغي سيخندق الأمازيغية في حسابات سياسية ضيقة و الأمر لا يتعدى كونه مجرد رقم سياسي ينضاف إلى الأحزاب الموجودة ، لأن المسألة الأمازيغية ليست مسألة طائفية بل وطنية تسمو فوق الأحزاب . في المقابل ، يرى المتحمسون للإطار السياسي أن الأمازيغية قضية سياسية و إنْ بقناع ثقافي و أن العمل الجمعوي لم يعد قادرا على تأطير المرحلة الحالية لأنه بقي نخبويا و لم يكن له أي امتداد مجتمعي (13) .



خطاب الحركة الأمازيغية
اللغة وعاء الفكر و الحضارة ، و لعل القارئ لخطاب الحركة الأمازيغية لا يجد صعوبة في رصد ملامحه . فالحركة لم تستطع أن تبلور خطابا ذاتيا خاصا بها تستطيع به أن تخاطب الجمهور الأمازيغي العريض . و لعل الانقسام التنظيمي له تجلّ واضح على مستوى الخطاب فبينما تجد فئة من الفعاليات الأمازيغية لا يتسع خطابها إلا للغة الفرنسية و لا تجيد اللغة العربية ولا حتى الأمازيغية . هذه الفئة تتعامل مع الفرنسية على أنها لغة مقدسة تسعفهم في مخاطبتهم للمغاربة الذين لا يجيدونها لدرجة أن خطاب هذه الفئة يتيه بمجرد ابتعاده عن البوصلة الفرانكفونية. و تجد فئة أخرى تتبنى خطابا انتقاميا شوفينيا جنائزيا لا يجيد سوى لغة العزاء و الهلكوست ، فأصبحت الكلمات المستعملة في هذا الخطاب محفوظة (التهميش ، و الإقصاء ، و الشعب الأمازيغي ، و الربيع الأمازيغي ، و السنة الأمازيغية ، و الحكم الذاتي ، و تقرير المصير ، و التطهير العرقي ، و المخزن القومجي العروبي ..، إلخ (14) .



في كثير من الأحيان تبدو الطائفية هي التي تؤطر هذا الخطاب ، فأصبحنا نسمع كلاما من قبيل : << نحن أمة موزعة على تسعة أقطار في إفريقيا تمتد من المحيط الأطلسي إلى نهر النيجر وسط إفريقيا ، و نهر النيل بمصر ، و البحر الأبيض المتوسط في الشمال … لذلك بدأنا نؤسس عودتنا إلى التاريخ الحديث بإنشاء منظماتنا الدولية و تأسيس آلاف الجمعيات لتأطير مجتمعنا و قيادته ثقافيا و سياسيا >> (15) . أكثر من ذلك ، هذا الخطاب المليء بالشعوذة الثقافية الذي لا يملّ من مخض الماء و طحن الهواء و جعجعة البخار تجده بلبوس عربوفوني يتغذى على سمعة العنصر العربي و اللغة العربية ، و يبحث عن كل مظاهر التناقض معهما ، لأن اللغة العربية في نظر هذه الفئة لا تعدو أن تكون لغة الغازي المستعمر العربي ، القادم من الشرق ، و أن الثقافة العربية << لم يعد لديها الكثير مما يمكن أن تقدمه للعالم المعاصر سوى العنف و التعصب . و هذا ما يعطي شرعية للأمازيغية كثقافة أرضية متحررة من كل العوائق التي يفرضها ثقل المقدس و المحرم >> (16) . و يضيف آخر : << ليعلم الجميع أن المسؤول المباشر و الفاعل الأصلي لمخطط إبادة شعبنا هو الأمويون … لقد طبع الأمويون أجدادنا إلى إسلام منحرف غير بريء … إذاً فالأمويون هم دهاقنة السياسة اللغوية الممارَسة في بلادنا … و هم الذين برمجوا شعبنا على إبادة نفسه >>(17) .



مثل هذا الخطاب تجاوز مسألة الدفاع عن الأمازيغية إلى التعصب في التعاطي مع اللغة العربية و الفتح الإسلامي و إلى نتوءات شعوبية تطفو إلى السطح في مرحلة الفتور الحضاري للأمة الواحدة القوية . خطاب أقرب إلى أسطورة شعب الله المختار في شمال إفريقيا المضطهد و المفعم بالاعتزاز بالانتماء مع الإحساس بالضعف و العجز و انعدام القيمة . من هنا التعصب المفرط للثقافة و التقاليد مما أوجد حالة من الانشطار العاطفي تجاه قيم المجتمع الإسلامية(18) .



الحلقة الأخرى التي وصل إليها الخطاب الأمازيغي ، و هي لا تقل عدمية من سابقاتها ، هي الحلقة اليسارية ؛ حيث أن هناك أطرافا أمازيغية سقطت في << فخ التوجه العدمي لليسار الراديكالي >> (19) ، حيث قامت مجموعة كبيرة من يتامى الشيوعية بعد موت إيديولوجيتهم التي لم تعمر طويلا ، قاموا بهجرة جماعية نحو العدوى الأمازيغية لإطالة عمرهم السياسي ما أمكن ، ريثما يسترجعوا قُواهم . حتى الدغرني نفسه كان في صفوف حزب التقدم و الاشتراكية و كان يصف الأمازيغيين بالبرغواطيين ، الآن وقد " تاب " و هاجر من اليسار إلى الأمازيغية ، من ضيق إلى أضيق منه << مستبدلا غصن شجرة بغصن … علا شجرة اللائكية الثورية اليسارية حتى تقصفت أغصانها ، فتراءت له شجرة أصالته على ضوء الديمقراطية و دستور الديمقراطية ، فهو هابط صاعد >>(20).



أصبح الحديث عن ضرورة تبني الطرح التقدمي للقضية الأمازيغية حديث الساعة ، على اعتبار أن الأمازيغيين منذ القدم هم اشتراكيون عفويون يعيشون وفق نمط إنتاج يرتكز إلى الملكية الجماعية للأفراد في ظل النمط الاشتراكي العفوي ، و انتقلت المعركة إلى التصدي للإقطاع البورجوازي العروبي الذي يعمل على حرمان الفلاحين الفقراء من الحق في الأرض و الماء و تنمية اللغة و الثقافة الأمازيغيتين .



أي تحول هذا الذي أقدمت عليه الفلول اليسارية من خطاب اشتراكي يتغنى بالقومية العربية إلى خطاب أمازيغي بلباس الصراع الطبقي << من أجل بناء المجتمع الاشتراكي و مواجهة الطرح الرجعي للنظام القائم المدعوم من طرف الأحزاب البرجوازية >> (21) ؟.. كيف تحولت الأمازيغية في رمشة عين إلى مفتاح النجاة لهؤلاء اليتامى اليساريين و إلى الأمس القريب يصفون الطرح الأمازيغي بالرجعي و أن النضال من أجل الأمازيغية يشوه النضال الطبقي ؟..



بعد أفول الاشتراكية و وصولها سن اليأس في كل مكان ، فقدت تلك العناصر كل مبرر وجودها السياسي ، فكان لا بد لها من البحث عن خيط يبقيها حية و لو في غرفة الإنعاش ريثما تتحقق ثورة العمال ، فلم يجدوا إلا الأمازيغية أمرًا ضروريا في الصراع من أجل البقاء . لقد استنجد غريق بغريق ، و من يدري بما و بمن يستنجد هؤلاء بعد أفول مخلصهم الجديد ، << اَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوَ اذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ >> ( الحج ـ 44 ) .



المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
أُسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بموجب ظهير ملكي بتاريخ 17 أكتوبر 2001 بعد خطاب أجدير 2001 ، هناك من يربط تأسيس المعهد الملكي بالجو " الانفتاحي " للعهد الجديد و تعاطيه الإيجابي مع المطلب الأمازيغي حيث إن تأسيس مؤسسة عمومية ضخمة بقرار ملكي و إمكانات ضخمة مرصودة ينم عن صدق النية الرسمية في التعاطي إيجابيا مع ملف الأمازيغية << حيث على الطرف الأمازيغي أن يتعامل بشكل إيجابي مع الخطوة الملكية غير المسبوقة >> (22) . كما اعتبر عميد المعهد أحمد بوكوس أن المعهد ليس تنظيما سياسيا و لا نقابة ثقافية و لا منظمة غير حكومية ، بل هو إطار مؤسساتي انبثق عن خطاب أجدير 2001 ، يُعنى أساسا بالحفاظ على مقومات الأمازيغية و النهوض بها ، وأن من بين مهام المعهد تبيان << المكاسب و المنجزات الهامة التي حققها المغرب في مجال النهوض بالأمازيغية >> (23) ... لكن هناك من يرى أن المعهد يندرج ضمن سياسة النظام في احتواء كثير من الفعاليات الأمازيغية واستقطابها للعمل داخل المؤسسة الملكية لتدبير ملف الأمازيغية وفق السقف السياسي المرسوم للسلوك الاحتجاجي ، و هذا ما أوجد حالة من الإرباك و الفتور النضالي الذي فرمل مطالب الحركة الأمازيغية (24) . و بررت الأطراف الرافضة لتأسيس المعهد كون ذلك لا يعدو أن يكون تدبيرا ظرفيا للأمازيغية لامتصاص الغضب و التوتر و أن هناك خطوطا حمرا و سقفا إيديولوجيا مرسوما لا يمكن تجاوزه. فالمطلوب من المعهد هو تسييج المطالب فيما هو ثقافي محض و عدم السماح بالانزلاق إلى العمل السياسي ، لأن طبيعة تركيبة المعهد تبقي كل الأمور المفصلية بيد الدولة (25) . كما أن << الهندسة القانونية للمعهد لا تطالها معطيات الاستقلالية و الشخصية المعنوية ، فالارتباط بشخص رئيس الدولة من خلال قناة الفصل 19 … ينفي صفة الفاعل على اعتبار أن عمل المستشار لا يتوفر على الصفة التقريرية و يندرج فقط في الاستشارة غير الملزمة ( و هذا ما جعل المعهد ) رهينا بمنطق المنح و استمرار ثقافة الولاء >> (26) . و يبقى المعهد في نظر هؤلاء مجرد مؤسسة فوقية جاءت لتسحب البساط من الحركة الأمازيغية و دفعها إلى الهامش معتبرين أن المعهد تحول إلى دار للنشر ، رغم أن المجهود الأكاديمي الذي قام به لم يكن إشعاعيا بما فيه الكفاية ليصل إلى المجتمع. لكن المعهد أصبح غاية أكثر منه وسيلة لتنمية الأمازيغية إذ أحدث قطيعة بين الفعاليات الأمازيغية العاملة فيه و بين مكوناتها الجمعوية ، لأنها هرولت إلى كراسي و منح المعهد كون إيمانها لم يكن راسخا بوجود قضية من حجم الأمازيغية تستحق النضال . هذا يبين الإرباك الواضح الذي خلقه تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إذ تم استقطاب فعاليات لها وزنها لشرعنة عملها من داخل المؤسسات الرسمية في إطار التصور الذي وضعه المخزن للتحكم في خيوط ملف الأمازيغية . و لعل اختيار محمد شفيق كأول عميد للمعهد ينطوي على دلالة عميقة جرى من خلالها تصويره و تسويقه على أنه المناضل الأمازيغي الأكاديمي المدافع عن الأمازيغية وفق الإستراتيجية الرسمية و السقف المرسوم في هذا الشأن (27) .



اللغة
اللغة وعاء تجربة الإنسان ، لكن ولاء الإنسان الشديد للغة قد ينزلق به نحو عصبية متزمتة . كان القوميون العرب - في مقدمتهم المسيحيون - يصطنعون لأنفسهم << قومية ناطقة بلغة الضاد لا بلغة القرآن ، ينشدون أمجاد اللغة العربية ، و يتيهون هياما بها ، و يرفعونها مكانا ساميا >> (28) .



أكيد أن النسب العربي الشريف لخاتم المرسلين لا يحجب إطلاقا عالمية الرسالة التي أتى بها << وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ >> (الأنبياء ـ 106 )؛ لأن الإسلام لُحْمة جامعة و إطار مرن يحتضن كل الأقوام و الأجناس والخصوصيات الثقافية ..؛ و لأن ميزان التفاضل بين الناس ليس هو اللغة بل التقوى << يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ >> ( الحجرات ـ 13 ) ، ونقف هنا عند المخاطب : << يا أيها الناس >> . كما أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف لاستيعاب الاختلافات اللغوية التي كانت موجودة بين المناطق العربية، أما السُّنة النبوية الشريفة فتؤكد ما ذهب إليه القرآن الكريم ، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم : << لا فضل لعربي على أعجمي و لا لأعجمي على عربي و لا لأبيض على أسود و لا لأسود على أبيض إلا بالتقوى>>.



لا فضل لعربي بعروبته على أعجمي مسلم ، لكن المسلم كيفما كانت لغته الأم ، يتمسك باللغة العربية ليس لشكلها أو ميزة فيها ، و لكن لمضمونها لأن الله تعالى ، و هو الحكيم العليم ، اختارها لتكون وعاء لكلامه المحفوظ بحفظه << اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتِهِ >> ( الأنعام ـ 125 ) ، << إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ >> ( يوسف ـ 02 ) ، << لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ >> ( النحل ـ 103) ، << وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا >> ( الشورى ـ 105 >> ، و كما تولى الله تعالى حفظ كلامه تولى أيضا حفظ الوعاء من الضياع ، << إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ >> (الحجر ـ 9)، و بالتالي تكون اللغة العربية هي التي تشرفت بحمل القرآن الكريم الذي مدها بكل مقومات الحياة و الصمود حيث أصبحت بذلك لغة عالمية ليس لميزة في ذاتها ، وإنما بفضل ارتباطها بالقرآن الكريم و الرسالة الإسلامية العالمية . هذه العلاقة الوثيقة بين الإسلام و اللغة العربية صعَّب كثيرا مسألة ترجمة القرآن إلى لغات أخرى ترجمة دقيقة ، << فمعانيه الرفيعة و مغازيه العميقة ما كانت لتنقل إلى لغة من دون تعرضها إلى تبديل أو تحوير أو نقص ما ، و هو أمر يؤدي إلى تشويه كلام الله و إخراجه عن جوهره و مقاصده >> (29) ، لأن ترجمة معاني القرآن ، و هو كلام الله تعالى ليس بمقالة نثرية أو قصيدة شعرية ، تبقى مسيجة بالاجتهاد البشري و أنها ترجمة تقريبية فقط لمعاني القرآن . أما تلاوته و التعبد به كما الصلاة به فلا يصح كل ذلك إلا باللغة التي بها أنزل . هذا يحتم على كل مسلم تعلم اللغة العربية أيا كانت لغته الأم ، تَوَسّلا إلى فهم دينه بفهم القرآن عقيدة و شريعة نهج حياة ، (30) لأن ذلك هو الحد الأدنى لضمان ما به تصح الصلاة و التعبد بالقرآن ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إذ لا يمكن فهم كلام الله تعالى ومعرفة محكمه و متشابهه و عامه و خاصه ، مطلقه و مقيده من دون التمكن من اللغة العربية .



كيف لِذِي عقل سليم أن يمنعه نسبه الطيني و افتخاره بأجداده من أن يتعلم لغة هيأها الله تعالى لتحمل رسالته الأخيرة الخالدة إلى الإنسانية كافة ، << تلك رسالة الله سبحانه ، و أنا العبد شرفني ربي بتلاوة كلامها ما هي تلاوة إلا بكونها نطقا باللفظ المنزل . و العربية همزة وصل لينة بين كلام الله و بيني أنا لعبد المشرف >> (31) ، هذا دون أن نغفل حقيقة مهمة و هي أن حرف تيفيناغ لا يتقنه عدد كبير من الأمازيغيين بله العرب كما أن الطريقة التي تم إقراره بها غامضة حيث صادقت عليه أقلية قليلة جدا هم أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2003 (32) ، هذا بغض النظر عن التفسير الذي يُعطى لهذا الحرف و القداسة التي أحيط بها أكبر من أن يستوعبها العقل ، فيقال إن تيفيناغ تعني الخط أو العلامة ، و هناك من يأخذ بالتفسير "الظاهري" للكلمة و يقول << تيفي >> تعني : اكتشاف ، و << ناغ >> تعني : لنا أو مِلكنا ، وبالتالي كلمة تيفيناغ تعني : مُكْتَشَفُنا ؛ أي أنها لغة أمازيغية خالصة ابتكرها الأمازيغيون لوحدهم قبل 3000 سنة قبل الميلاد ، و هي نفس الخلاصة التي توصلت إليها " الأكاديمية البربرية " في باريس حيث إنه << إذا كان العرب يدينون للآراميين ، و الأوروبيون للفينيقيين … فإن البربر لا يدينون لأحد في وضع الحروف التي ترجع إلى عهد ضارب في القدم >> .



هذا الادعاء يحتاج إلى كثير من التمحيص خاصة و أن المنطقة ( شمال إفريقيا ) في تلك الحقبة المذكورة كانت في مرحلة من البدائية و البساطة بما لا يسمح بظهور لغة منظمة يمكن أن تعبر عن البوتقة الثقافية و الحضارية للشعوب كما أن تيفيناغ كانت مجرد نقوش على الحجر عند الطوارق تكتب في كل الاتجاهات ( أعلى ، أسفل ، يمين ، يسار ) أكثر من كونها لغة . تاريخيا ، لا يمكن الجزم بأن الأمازيغية بشكلها الحالي هي التي كانت سائدة في زمن ما قبل الإسلام و ذلك بالنظر إلى الحضارات المتعاقبة و الاستعمارات المتتالية قبل الفتح الإسلامي ، و هذا ما أثر بشكل كبير في حضارة شمال إفريقيا بما في ذلك اللغة .



لقد لعبت المدرسة الاستعمارية و ما تزال الدور الحاسم في التوجيه الإيديولوجي و المالي للملف الأمازيغي ، و لم تبذل تلك المدرسة أدنى جهد لتقنع كثيرا من المناضلين الأمازيغيين بأطروحاتها و جعلها إطاراً نظريا لا يطاله الشك . ليس هناك داء و سُمٌّ أشد فتكا لوحدة الشعوب و الأمم من النعرات العصبية والقومية . فالقومية ، عربية كانت أو أمازيغية ، بضاعة إيديولوجية مستوردة غريبة عن التاريخ الإسلامي (33) . لقد دفعت أخطاء القومية العربية القوميين الأمازيغيين إلى اعتبار العروبة ، و معها الإسلام أحيانا كثيرة ، رديفا للاستبداد وشريكا مباشرا في سياسات الحذف و التهميش التي تصنعها الأنظمة الحاكمة بكل أطياف المجتمع عربيّها و أمازيغيّها .



اقتضت حكمة الله تعالى ، لا يضل ربي و لا ينسى ، أن تكون آخر رسالته للبشرية هي القرآن كما اقتضت حكمته تعالى ، و هو الحكيم العليم ، أن تكون هذه الرسالة باللفظ العربي المبين من دون أن يمنع ذلك دخول العجم إلى الإسلام من ترك و فُرس و أمازيغ … الذين يسر الله لهم الدخول أفواجا إلى هذا الدين العظيم. لا ينازع أصلي غير العربي حُبّي للقرآن إلا كما ينازع غصن الشجرة جذعها ، فرض عليّ ربّي ، و هو القاهر فوق عباده خمس صلوات في اليوم و الليلة لا تصح إلا بقراءة القرآن فيها باللفظ العربي المبين . كيف لي من كل هذا الفضل الذي به يكتمل إسلامي و يرقى إيماني و يسمو إحساني إن لم أَسْعَ لإتقان اللغة العربية لغة القرآن ؟.. << أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا >> (محمد ـ 25 ) ، أحد هذه الأقفال المهمة هو قفل عدم الإلمام باللغة العربية ، لا فقه و لا علم و لا عبادة و لا قرآن بدون عربية .



المطالب السياسية من حجم المطالبة بدسترة اللغة الأمازيغية بدأت من الاستئناس الثقافي لمكونات الثقافة الأمازيغية ، غير أن الحركة الأمازيغية رفعت سقف المطالب السياسية إلى ضرورة توفير الحماية القانونية و الدستورية للغة الأمازيغية على اعتبار أن جميع دساتير المغرب السابقة أغفلت هذا المكون ، كما أن الدستور الحالي يقوم على << فلسفة إقصائية >> تجاه الأمازيغية و بالتالي لن يكون هذا الدستور ديمقراطيا إلا إذا نص على الأمازيغية لغة وطنية و رسمية، (34) بحجة أن هناك << دولا متقدمة >> كإسبانيا ، و سويسرا ، و بلجيكا ..، تعتبر نموذجا للاقتداء في هذا المجال ؛ حيث نصت تلك الدول في دساتيرها على أكثر من لغة رسمية في دساتيرها مع العلم أن تلك الدول لم تفعل ما فعلته بناء على مطالب الهوية و العرقية و إنما بناء على الوظيفة الاقتصادية و الإدارية لتلك اللغات، كما أن << الأمم المتحدة >> ، التي تضم حوالي 200 دولة ، اختارت فقط ست لغات للتداول الرسمي بينها اللغة العربية .



إذا كان مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور و توطينها باعتبارها اللغة الأم و لغة التداول اليومي ، فإن ذلك ينطبق تماما على مختلف الدارجات العربية المغربية و على الحسانية كذلك ، كما أن هذا المطلب يقفز على الواقع المغربي الذي يحفل بأمازيغيات عديدة غير موحدة و غير ممعيرة و كأن الدسترة هي الشرط اللازم لولادة لغة أمازيغية موحدة يتواصل و يكتب بها المغاربة بسهولة . كما أن هذا الواقع المغربي يعطي سيادة للغة الفرنسية في دواليب الدولة ( الإدارة ، و الاقتصاد ، و الأبناك … ) بشكل جعل << الفرنسية هي لغة الدولة المغربية الحقيقية رغم بهتان الدستور ، و الثالثة و الرابعة عربوفونية فاشلة و أمازيغية مفشلة >> (35) . فاللغة العربية ، رغم رسميتها و وطنيتها في الدستور المغربي ، ليس لها أي امتداد في الواقع و الإدارة و الاقتصاد . لا نغمط اللغات الأجنبية أهميتها في العصر و لكن لا يجب أن تكون أكثر من عصا يتوكأ عليها الأعرج ، فذلك من ضرورات المعاش أن يتوكأ الأعرج ريثما تصح رجلاه >> (36) ، هذا هو الواقع الذي فيه صراع بين ثنائية وهمية ( عربية مقابل أمازيغية ) ليفسح المجال أمام << اللغة الحية القوية الأنيقة >> و تنفرد بالريادة ... و تبقى << العربوفونية و الأمازيغوفونية >> أرامل متواضعات مهزومات ، في مواقع حرب شاملة و وقائع نهب منظم و ضرائر في بيت الفاقة والتخلف ..، يتنازعن عن كسرة خبز قفار و مُزْعَةٍ من لحم البوار و الدمار (37). فهل تستطيع الأمازيغية بنسختها الحالية أن توطن صناعة أو اقتصادا أو إعلاما هادفا أو تعليما بناء ؟.. و هل تستطيع أن تقاوم الغزو الفرانكفوني الممنهج ؟.. كيف لها ذلك و هي لا ثقة لها بنفسها بعد ، و لا ثقة للمتكلمين بها بها ؟.. هل بمجرد ترسيمها في الدستور ستحل كل << المسائل العالقة >> ؟.. << فمع يقيني ( يقول عبد اللطيف أكنوش ) أن دسترة الأمازيغية نصًّا لن يحل مشكل رسميتها واقعا … فلا يسعني إلا أن أطالب به كمطلب ثقافي و كمطلب سياسي >> (38) .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــ الحكم الإسلامي بين النقض و الإبرام ، محمد دحان. ص91.
(2) ــ الإسلام و تحديات الانحطاط المعاصر ، منير شفيق. ص77-78.
(3) ــ الإهانة في عهد الميغاإمبريالية، المهدي المنجرة. ص155-156-157.
(4) ــ جغرافية الفكر ، ريتشارد نيست . ص312.
(5) ــ جريدة أكراو أمازيغ، عدد.18، من 13 إلى 28 مارس 1998.
(6) ــ المصدر نفسه، العدد الصادر من 07 إلى 13 يوليوز 1996.
(7) ــ انظر نص الحوار كاملا على الموقع: www.hespress.com بتاريخ 18 شتنبر 2007.
(8) ــ جريدة ملفات، عدد.18، نونبر 2008.
(9) ــ جريدة المستقل، العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 01 غشت 2001.
(10) ــ المصدر نفسه.
(11) ــ لمزيد من التفصيل، أنظر: الإسلام والأمازيغية نحو فهم وسطي للقضية الأمازيغية، للتجاني بولعوالي.
(12) ــ مكتب البحوث و الدراسات ، قناة الجزيرة الفضائية www.aljazeera.net .
(13) ــ جريدة المستقل ، العدد الصادر من 18 إلى 24 ماي 2000 .
(14) ــ جريدة الجسر، عدد 35، محرم 1417هـ / يونيو 1996م
(15) ــ أنظر حوار الجزيرة نت مع أحمد الدغرني www.aljazeera.net
(16) ــ المسألة الأمازيغية بالمغرب. مصطفى عنترة، ص 34
(17) ــ جريدة المستقل، العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 1 غشت 2001
(18) ــ التخلف الإجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور. د مصطفى حجازي، ص115-116
(19) ــ جريدة ملفات، عدد 18، نونبر 2008
(20) ــ حوار مع صديق أمازيغي. عبد السلام ياسين، ص 76
(21) ــ جريدة النتدى الأمازيغي، العدد1، دجنبر
(22) ــ جريدة أكراو أمازيغ، عدد 34/205 بتاريخ 28 أكتوبر 2008.
(23) ــ المصدر نفسه.
(24) ــ مجلة وجهة نظر، عدد 24 السنة الثامنة شتاء 2005، ص 19.
(25) ــ جريدة ملفات، عدد 18، نونبر 2008.
(26) ــ مجلة وجهة نظر، عدد 24 السنة الثامنة شتاء 2005، ص 20.
(27) ــ جريدة الصحيفة، عدد 170 الصادر من 07 إلى 13 يوليوز 2004.
(28) ــ ياسين عبد السلام، الإسلام والقومية العلمانية، ص 9.
(29) ــ مجلة عالم الفكر، المجلد 37، يوليوز-شتنبر 2008، ص 8.
(30) ــ المصدر نفسه، ص 8.
(31) ــ ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص 97-98.
(32) ــ جريدة الأيام، عدد 72 الصادر من 06 إلى 12 فبراير 2003.
(33) ــ جريدة السبيل، عدد 38، 10 شتنبر 2008.
(34) ــ جريدة الصحيفة، عدد 170 الصادر من 07 إلى 13 يوليوز 2004، وجريدة المستقل العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 01 غشت 2001.
(35) ــ ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص 103.
(36) ــ المصدر نفسه، ص 135.
(37) ــ المصدر نفسه، ص 105.
(38) ــ جريدة المستقل، العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 01 غشت 2001.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق