الأحد، أغسطس 08، 2010

ترغيب المسلم في العربية من مقاصد الشريعة

بقلم : الدكتور محمد بولوز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أثار رفض علماء الأزهر وغيرهم لفتوى تجيز تلاوة القرآن بالتركية في الصلاة ، حفيظة البعض عندنا (*) ، ليطلق لخياله العنان في تعداد مثالب تلاوة القرآن كما أنزل و التعبد به لغير الناطقين بالعربية ، و محاسن التخلص من اللغة الجامعة للمسلمين في أمور الدين ، و الإحالة على ما حصل في تاريخ المسيحية من الانتقال التدريجي
من اللغة الجامعة إلى استعمال لغات الناس اليومية و التحرر من العبودية لغيرهم .

والحال أن جماهير علماء الأمة منذ فجر الإسلام على تحريم قراءة القرآن بغير العربية و أن الصلاة لا تصح بذلك ، و حتى ما نقل عن أبي حنيفة بتجويز قراءة الفاتحة بالفارسية لغير القادر على العربية ، ذكر الأحناف أنفسهم تراجعه عن رأيه ، قال صاحب الهداية الحنفي بعد ذكر المسألة : << و يروى رجوعه في أصل المسألة و عليه الاعتماد >> ( الهداية مع شرح فتح القدير 1/249) . و قال الشيخ علاء الدين الحصكفي من الحنفية بعد ذكر المسألة : << لأن الأصح رجوعه - أبو حنيفة - إلى قولهما - أبو يوسف و محمد – و عليه الفتوى >> ( الدر المختار شرح تنوير الأبصار 1/484 ) . و أكد العلامة ابن عابدين الحنفي صحة رجوع أبي حنفية عن قوله في هذه المسألة ( حاشية ابن عابدين 1/484 ) .

و الدليل العملي و الواقعي على انضمام الأحناف لجمهور العلماء في حرمة القراءة في الصلاة بغير العربية ، هو حال الناس في تركيا الآن و غيرها من بلدان العالم التي تتمذهب بالمذهب الحنفي حيث لا يعتمدون ذلك الرأي على فرض وجوده ، و لو كان الأمر خلاف ذلك لما كان لهذه الفتوى الجديدة معنى . وأضيف على فرض وجود الرأي المجيز ، بأنه رأي مرتبط بحال العجز والاضطرار و الاستثناء ريثما يتمكن صاحبه من التعلم ، فيكون شبيها برأي الجمهور القائل بأن العاجز عن تلاوة الفاتحة يذكر الله في الصلاة إن لم يتيسر له الائتمام بالقادر على ذلك . و لا شك أن ترجمة الفاتحة و قراءة معناها تدخل في الذكر و لا تعتبر قرآنا بحال من الأحوال .

وهاهي الأمة عبر تاريخها الطويل ، لم تشكل هذه المسألة عائقا من عوائق فهم الدين ، أو حاجزا يحول دون الإيمان الحق بمعانيه ، و عجمها أضعاف أضعاف عربها ، بل كان هذا الحكم حافزا على تعلم العربية و النبوغ فيها .

فهذا سيبويه إمام النحاة الذي إليه ينتهون ، و علَم النحو الشامخ الذي إليه يتطلعون ، و صاحب كتاب العربية الأشهر و دستورها الخالد ، فارسي الأصل ، وكذلك الشأن في الكسائي و ابن خالويه الهمداني و أبو علي الفارسي ، و مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط ، و من غير هؤلاء ابن فارس القزويني ، و الثعالبي النيسابوري ، و ابن جني صاحب الأصول الرومية ، و ابن منظور الإفريقي المصري صاحب لسان العرب ، و خذ من المتأخرين جدا الأمازغي المغربي ابن آجروم محمد بن محمد بن داوود الصنهاجي الذي برع في النحو ، فكتب فيه متنا مختصرا مفيدا كان مرجعا لطلاب العربية في طول العالم الإسلامي و عرضه ، فأول ما يتعلمه طلاب العربية و إلى عهد قريب و لا يزال في الكثير من البقاع << متن الآجرومية >> في مبادئ العربية ، و يدينون بالفضل العظيم لمؤلفه ، و يترحمون عليه عند قراءة جزء من متنه .

فلم يكن الناس يرون في العربية عرقا و عنصرا قبليا بقدر ما رأوا فيها لسانا لوحي ربهم ، و سنة نبيهم يتقربون إلى الله بحبها و تعلمها و استعمالها في فهم الدين و التفقه فيه .

فالله يخلق ما يشاء و يختار ، خلق البشر و اختار منهم الأنبياء ، و أنزل الشرائع و اختار منها بعد بعثة محمد صلى الله عليه و سلم الإسلام ، و خلق الشهور و اختار منها رمضان ، و خلق الليالي و اختار منها ليلة القدر ، و خلق الأيام و اختار منها الجمعة و عرفة ، و ليس غريبا أن يختار لوحيه الخاتم لغة العرب ، فحفظ شأنها بحفظ القرآن ، و لولا الذكر الحكيم و جوامع كلم المصطفى الأمين صلى الله عليه و سلم ، لاندثرت و تغير حالها و صارت في أحسن الأحوال هي هذه اللهجات المحلية أو أشد من ذلك ، فرغم أن الإسلام دين عالمي للبشرية كلها ، إلا أن العربية بقيت من لوازمه في التعبد و التفقه في الدين .

و إذا كان اشتراط العربية مسلما فيمن أراد التفقه في الدين و الإمامة فيه، فالتعبد بتلاوة القرآن كما نزل بلغة العرب في الصلاة و غيرها ، طريق لإثارة الانتباه و تعلق العقل و القلب لتعلمها و التفقه فيها و إذكاء الرغبة في الرجوع إلى اللغة الأصلية لمصادر الدين . و لو لم تكن مقصودة لاكتفى القرآن كما هو شأنه في الحديث عن التقوى بالتأكيد على أن الأكرم عند الله هو الأتقى ، و بأنه لا فضل لعربي على عجمي كما بين النبي صلى الله عليه و سلم ، فكان بذلك بلال الحبشي و سلمان الفارسي و صهيب الرومي و طارق بن زياد الأمازيغي أفضل عند الله و أعظم من أبي لهب العربي . غير أنه في اللسان اعترف بأن الاختلاف فيه من آيات الله للعالمين ، و من سنته في خلقه أن جعلهم شعوبا و قبائل ليعرف بعضهم بعضا ، و لعل من أقرب السبل في ذلك بخصوص المسلمين اختيار اللغة العربية لتكون لغة لدينهم يتعارفون بها في مشارق الأرض و مغاربها مهما اختلفت ألسنتهم و لهجاتهم ، فالتعدد اللغوي و وجود واحدة منها للتواصل المشترك ليس مستغربا في المنطق الحضاري في دنيا الناس فكيف بمن تجمعهم قبلة واحدة و دين واحد .

و من هنا تأتي فائدة التنصيص على اللسان العربي في الخطاب الموجه للعالمين ، قال تعالى : << إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ >> (يوسف ـ 2) و قال عز و جل : << وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ >> ( الشعراء 192 ـ 195 ) . وقال النبي صلى الله عليه و سلم : << أعطيت جوامع الكلم >> ، أي قليل اللفظ كثير المعاني . و امتزجت العربية بالدين امتزاجا لا يكاد يعرف فكاكا ، فكان بذلك المبتدئ في لسان العرب مبتدئا في شريعة الإسلام ، و المحارب للغة الضاد هو بالتبع و الأصل محارب للإسلام ، و المحارب للإسلام سينتهي حتما إذا نجح لا قدر الله في تقليص نفوذه ، إلى تقليص نفوذ لغة الضاد ، و هذه الأندلس في الماضي لما ضاع دينها ضاعت عربيتها ، و في الحاضر كلما تقدم نفوذ الإسلام تقدمت معه العربية فنجد المسلمين الجدد من مختلف القارات أكثر شغفا و حبّا في تعلم لغة القرآن ، و مثال تركيا اليوم واضح بين ، لما انتعش فيها تيار التدين انتعشت فيها العناية بالعربية بل حتى بالعرب فحضر رجب أوردوغان قمة العرب و غاب عنها الكثير من قادتها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ــ منهم أحمد عصيد في مقالته << عروبة الإسلام >> .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق