الأحد، أغسطس 08، 2010

الأمازيغية : شرعية الثقافي و اختلالات السياسي


بقلم : جمال بندحمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعرف المغرب منذ عقود نقاشات تطال قضايا التعدد اللغوي و الثقافي كان أبرز وجوهها بروز تيار ثقافي أمازيغي ربط المطالب بقضايا خلافية مثل الهوية و مكوناتها و انتهى إلى المطالبة بجعل الأمازيغية لغة وطنية و رسمية في دستور تتم
المطالبة بجعله ديمقراطيا .

و قد ترتب عن ذلك تبني حركات مدنية و سياسية هذه المطالب ، مما حوّل مسار موضوع الأمازيغية من الإطار الثقافي إلى السياسي . و رغم أن الدولة أبدت مرونة كبرى في التعامل مع الموضوع بمأسسة الإطار الثقافي المحتضن للثقافة الأمازيغية عبر تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، فإن حدة المطالب تزداد اليوم بصورة راديكالية . و هذه المطالب قد تكون لها انعكاسات سلبية ما لم تتم معالجة الموضوع برؤية ديمقراطية ضمن مشروع مجتمعي متكامل و منفتح قائم على الحوار الذي يجعل الوطن سقفا للاختلاف الذي لا ينبغي تجاوزه .

إن هذه الرؤية هي التي تحكم تصورنا للموضوع و مناقشتنا له انطلاقا من المحاور التالية :

المدخل المنهجي
نقصد به الصيغ المعتمدة في تفعيل مطلب دسترة الأمازيغية ، و الطرق التي تواكبه سواء من قبل الحركة الأمازيغية أو الجمعيات الحقوقية ، و التي نسجل بصددها جملة ملاحظات :

1) ــ لا يرتبط مطلب دسترة الأمازيغية بتصور منهجي شمولي مقترن بتصور مجتمعي متكامل أو بتعاقد جديد تتفاعل ضمنه مختلف المطالب الجزئية . كما أن منهجية المطالبة و التدبير في المجال اللغوي بالمغرب لا تحقق ما نصطلح عليه بالديمقراطية اللسانية . صورة ذلك أن المغرب يشتغل بأكثر من رأس تشريعي لغوي ، فالدستور يتحدث عن رسمية اللغة العربية ، و الميثاق الوطني للتربية والتكوين تحدث عن تعدد لغوي ، و المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية شرع لاختيار حرف تيفناغ و كان قراره ملزما للمغاربة ، و لم يخضع للمسار الذي ينبغي أن يتحرك ضمنه كل تشريع و الذي يضمن له صفة التشريع الديمقراطي الذي لا يمنح اللجان و المعاهد الصفة التشريعية الملزمة .

2) ــ تعتمد هذه الصيغ في العادة على التعبئة من أجل المطالب و تغيب التعبئة عن الحلول ، و هي منهجية لها مخاطرها لأنها تسمح بضياع بوصلة التحليل و تغيب آلية التوافق و التفاوض بتبني اختيارات نهائية في مجال نسبي بامتياز . ذلك أن مجال الحقوق الثقافية و اللغوية هو مجال الشك التعريفي والمنهجي ، و مجال النسبيات. و لذلك فإن شق هذه الحقوق هو الشق الوحيد من حقوق الإنسان الذي يتصدى لكل محاولات الإغلاق أو اليقينيات الثابتة .

المدخل المعرفي
يعيش المغرب اليوم نقاشا حول قضايا مصيرية و جوهرية تهم مكانة الدين في المجتمع و وضع اللغة و الثقافة و العدالة الاجتماعية و تخليق الحياة العامة والمشروع التربوي المجتمعي ، و غيرها من المواضيع التي تؤكد مناقشتها أن المبادئ و الأسس التي قامت عليها منظومتنا المجتمعية و السياسية و الثقافية لم تعد كافية ، و لا مقنعة ، و لا موضوع إجماع وطني واسع . و أن الأطر الثقافية والرمزية التي عشناها أصبحت منهكة و في حاجة إلى جرعات إنعاش ، أواستبدال كلي حسب ما يمكن أن يقرره المغاربة ، و ليس فئة واحدة منهم .

تبرز داخل هذا النقاش قضايا الهوية التي تتباين بشأنها الأطروحات ، إذ هناك من يعتبر أن الهوية الثقافية سابقة على الهوية السياسية و أن الأولى معطاة والثانية مبنية . و بالفعل فإن الهوية السياسية تبحث عن مرتكزها في الهوية الثقافية، لأن الهوية السياسية ابنة أوضاع أكثر مما هي ذاكرة فردية أو جماعية ملزمة و ضرورية . من هنا فإن الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي تروج في الخطاب الأمازيغي تحتاج إلى تعميق نظري يستحضر الأبعاد الاجتماعية والسياسية و النفسية .. و يكفي أن نذكر مفاهيم مثل الشعب الأمازيغي ، و تقرير المصير، و العنصرية ، و التمييز العنصري ، و الحكم الذاتي ، و الغزاة العرب .. و هي مفاهيم تروج لخطاب تقسيمي . لأن ذلك سيقود إلى الحديث عن الشعب العربي و الشعب الأندلسي و الشعب الأفريقي .. و هكذا يصبح المطلب مدخلا إلى التجزيء و الطائفية القائمة على أسس هوياتية متخيلة ، ما دام الحديث عن هوية صافية مجرد ضرب من الميتافيزيقا و الخيال ، بل إن المزايدات السياسية دفعت البعض إلى الارتماء في أحضان إسرائيل و البحث عن الشرعية بالحج إليها باعتبارها قبلة بديلة .

و في ارتباط بموضوع الهوية تطرح المطالب تضمين الدستور بنودا تتعلق بنوع النظام الإداري و مكانة الدين و ترسيخ الأعراف الأمازيغية بشكل قانوني .

مثل هذه القضايا لا تحسم فيها المطالب فقط ، بل تساهم في بلورة تصوراتها الاجتهادات المعرفية ، مع الانتباه إلى أن الخطاب الأمازيغي الذي يتبنى قيم الحداثة يروج لخطاب القبيلة و لخطاب سلفي ، ما دامت السلفية هي ذلك الفكر الذي يؤمن بأن حلول الماضي صالحة لحل مشاكل الحاضر . فالحديث عن الأعراف ، مثلا ، هو نوع من هذه السلفية التي ترتدي لباس الحداثة ، و الباحثة عن مشروعية إعادة قراءة التاريخ المغربي الحديث قراءة جديدة تلغي مفهوم الظهير البربري بإعادة الاعتبار لشرعية الأعراف .

المدخل الحقوقي
نقصد به الطبيعة الحقوقية لمطلب الدسترة الذي يستدعي الإجابة عن أسئلة من قبيل : ما العلاقة بين ترسيم لغة ما و هوية المجتمع ؟.. و هل يعد ترسيم لغة ما تفعيلا لمبادئ حقوق الإنسان ؟.. و هل يعد عدم ترسيمها خرقا لمبادئ حقوق الإنسان ؟..

تتطلب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة استحضار تجارب دول أخرى ، أوهيئات معترف لها بالمصداقية و الدفاع عن حقوق الإنسان ، كما يتطلب استحضار المطالب التي تقدمها الكثير من الحركات الأمازيغية . لكن هذا الاستحضار من قبلنا مقيد بشروط نعتبرها أساسية ، ذلك أن المطالب حق مشروع يؤكد حيوية الحركات الاجتماعية و المدنية و السياسية ، و في حالتنا فإن المبدأ يعني مشروعية المطالب في جزئها الإجرائي باعتبارها اقتناعات لمواطنين مغاربة، لكن مضامين هذه المطالب هي أساس نقاشنا .

فقد انتقلت مطالب الحركات الأمازيغية من مطلب الإقرار بالهوية إلى المطالبة بصفة اللغة الوطنية وصولا إلى المطالبة بصفتي اللغة الوطنية والرسمية و عدم إدماج البعد الديني في نص الدستور .

لنقارب ، إذن ، مطلب ترسيم الأمازيغية في علاقته بالهوية أولا، ثم نتبع ذلك بالحديث عن علاقته بحقوق الإنسان حيث نقدم طرحا يرى أن مبدأ ترسيم لغة ما لا يمت بصلة إلى الهوية و قضاياها ، فالكثير من الدول التي اختارت لغاتها الرسمية لم تخترها بناء على معيار الهوية ، بل على معايير الوظيفية الاقتصادية و الإدارية و التواصلية و الدولية .

أما ربط الترسيم بحقوق الإنسان ففيه الكثير من النظر ، و يكفي أن نستحضر اختيارات الأمم المتحدة للتدليل على ذلك ، فالأمم المتحدة باعتبارها كيانا معنويا يضم هويات مختلفة هي الدول المنتمية إليها ، و التي تفوق 190 دولة اختارت ست لغات رسمية ضمنها اللغة العربية الفصحى ، استنادا إلى معايير محددة مثل معيار عدد الناطقين بهذه اللغات أو المعيار الوظيفي أو المعيار الاقتصادي .

و هذا الاختيار لم يكن محل طعن في مدى تشبث الأمم المتحدة بحقوق الإنسان ، و هي صاحبة المواثيق الدولية التي يحتكم إليها المقتنعون بالحقوق الإنسانية من ضمنها الحقوق الثقافية و اللغوية .

من الناحية المبدئية ، إذن ، موضوع ترسيم لغة ما لا علاقة له بالهوية وقضاياها ، بل إنه مرتبط بالوظيفية ، لأن اللغة الرسمية هي لغة العمل .

و من الناحية العملية ، فإن ترسيم لغة ما أو عدة لغات هو قضية إمكانات مادية و اقتصادية و وظائف دولية . و يمكن في هذا الصدد الاطلاع على التجربة الكندية أو البلجيكية .

و من الناحية الحقوقية لا يمكن الجزم بالتعالق بين حقوق الإنسان والترسيم . و رغم كل ذلك نقول بأن من حق كل مواطن مغربي أن يطالب بما يراه متجاوبا مع ما يعتبره في لحظة تاريخية ما مكونا لهويته ، لكن ذلك لا يعني أن المطالب ينبغي أن تبنى على حقوق الآخرين .

أي أن فئة من المغاربة تطالب بحقوقها و تجعل جزءا من مشروعية مطالبها مؤسسا على الدعوة إلى اغتيال جزء من مكونات الهوية المغربية ، و إلا فما معنى إحداث تقابل غير مسوغ بين العربية و الأمازيغية ، و انتقاد العربية بشكل فج يصل حد التجريح و التنقيص ؟..

لنترك هذه الأسئلة التي تحمل مضمراتها و لننتقل إلى مناقشة مطلب التوطين ، أي المطلب الداعي إلى جعل الأمازيغية لغة وطنية .

لغة وطنية أم لغات وطنية ؟

لا شك أن من بين القضايا الأساسية التي ينبغي تداولها اليوم بشكل ديمقراطي و بانفتاح معرفي و أفق وطني قضية اللغة الوطنية ، حيث يتم الإقرار بوجود تعدد لسني بالمغرب يقوم على وجود عربية فصحى و لغة حسانية ودوارج مغربية و أمازيغيات مغربية هي تشلحيت و تريفيت و تمزيغت . مع الأخذ بعين الاعتبار الحضور المهيمن للفرنسية في دواليب الإدارة المغربية و مجال الاقتصاد الوطني ، و حضور تواصلي للإسبانية بشمال المغرب .

بداية لنلاحظ أن مطلب جعل الأمازيغية لغة وطنية في دستور ديمقراطي يستند إلى جملة معايير ضمنها أنها اللغة الأم ، و لغة الهوية الأمازيغية .

لكن لنلاحظ أيضا أن هذين المعيارين ينطبقان على الدوارج المغربية ، وعلى الحسانية بامتياز ، فالدوارج المغربية هي لغات الأم بالنسبة للكثير من المغاربة .

و لذلك لم يكن مستغربا أن نجد اليوم من يدعو إلى جعلها لغات الإعلام الأولى ، بل إننا نجد في بلد مثل مصر دعوات مماثلة تدعو إلى تأسيس معهد لدراسة العامية المصرية ، بل و دسترتها أيضا .

و رغم أن الخلفيات الموجهة لهذا النقاش ذات أبعاد و أهداف أخرى ، فإننا نقر بحق أصحابها في الدعوة إلى ما يرونه معبرا عن وجهة نظرهم . أما الحسانية فإن وضعها باعتبارها اللغة الأم لا يجادل فيه إلا معاند .

و إذا أردنا أن نضيف معيار الجهوية ، الذي يرد في بعض الخطابات الأمازيغية ، سننتهي إلى كون الجهوية تنطبق كذلك على باقي اللغات الوطنية . ولذلك فإن مطلبي التوطين و الجهوية ينبغي أن يستحضرا هذه الأبعاد مجتمعة .

عندما نخصص الحديث عن الأمازيغية فإننا ننبه إلى أننا نأخذها بصيغة الجمع ، إذ نحن أمام تعدد لسني تؤكده الأمازيغيات الثلاث ، و عندما نستحضر هذا المعطى يصبح الحديث عن ترسيم الأمازيغية في وضع محرج .

إذ كيف ندعو إلى ترسيم لغة غير موجودة لحد الآن { يقصد لغة موحدة و ممعيرة يمكن الاعتماد عليها وظيفيا } ؟.. هل ندستر لغة افتراضية ستوحد المتعدد ؟.. من هنا نفهم أبعاد السؤال الذي طرحه مدير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أحمد بوكوس : << هل ندستر الأمازيغية قبل تأهيلها أم نعتبر أن الدسترة شرط من شروط تأهيلها ؟ >> .

و هذا التساؤل الموضوعي يعني أن الأمازيغية المفترضة ، و التي هي أمازيغية موحدة و ممعيرة ، هي إنتاج مجهود يسعى المعهد إلى إنتاجه ، علما بأنه مطلب قديم تحدث عنه مؤرخون و لسانيون مثل الجزائري سالم شاكر .

و بغض النظر عن طبيعة هذا التوحيد و المعيرة ، فإن أسئلة كثيرة تطرح على الداعين إليها و الساهرين عليها مثلما هي مطروحة على كل المغاربة، كما أنها تجعل الخطاب الأمازيغي في مأزق نظري أساسي .

فقد بنى هذا الخطاب طروحاته على ثنائية التنوع و الوحدة ، و الحال أن مبدأ المعيرة هو إقصاء لهذا التعدد ، كما أنه سيحول الأمازيغيات إلى أمازيغية واحدة تتميز بكونها أمازيغية فصحى سيكون لها من الخصائص ما للعربية الفصحى التي كثيرا ما انتقدها الخطاب الأمازيغي المطالب بالإجابة عن سؤالين هما :

ــ كيف نضمن التنوع الذي لا يفضي إلى التشتت ؟..
ــ و كيف نحافظ على الوحدة التي لا تقوم على القسر و القهر ؟..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق