الأحد، أغسطس 22، 2010

لا تقتل لغتك


بقلم : محمد عيادي
( 13 يوليوز 2010 ـ موقح حركة التوحيد و الإصلاح )
ــــــــــــــــــــــــــــــ
شعار جميل لحملة نظمتها مؤسسة الفكر العربي و جمعية << فعل أمر >> في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي بلبنان تدعو لاحترام اللغة العربية و الحفاظ عليها ، و الحديث بها في الحياة اليومية ، و عدم خلطها بهذه اللغة الأجنبية أو تلك من دون
داعٍ و لا ضرورة ملزمة .



و أعجبني تصوير أحد المدوِّنين لمشهد توزيع الحروف العربية على الأرض في شارع الحمراء ببيروت في إطار فعاليات الحملة ، و إحاطتها بشريط أصفر كُتب عليه << لا تقتل لغتك >> بقوله : << جثه ملقاة على الأرض محاطة بشرائط صفراء كي لا يُعبث بمسرح الجريمة ، نلقي نظرة على الجثة لنفاجأ بأنها تعود للمدعو حرف الضاد كما عُثر على المغدور حرف العين مضرجاً بدموعه ، أقصد بدمائه في مسافة لا تبعد كثيراً عن القتيل الأول ، و غير بعيد تم الاعتداء على تاء التأنيث بوحشية في زقاق مظلم في ساعة متأخرة من ذات مساء أسفر عن مفارقتها الحياة . حروف جميلة تُقتل و تُغتال ، حرفاً حرفاً حتى الحركات لم تسلم ، من فتحةٍ تحلّق عالياً و ضمةٍ تحضننا ، و كسرةٍ متواضعة ، كلهم يُقتلون يومياً بوحشية و سادية و عنف ، و القتلة هم نحن ، جميعنا نشارك بذبح هذه اللغة ، نغتالها برصاص لغات أخرى >> .



طبعاً << قتل >> اللغة العربية لا يقتصر على لبنان بل هي جريمة تُمارَس في جل الوطن العربي مشرقه و مغربه ، الأمر الذي يدعو لشن حملات توعية بهذه الجريمة في كل هذه البلدان العربية ؛ حيث صار خلط الحديث بقليل من الفرنسية أو الإنجليزية دليلاً حسب البعض على الرقي و التقدم ، و يشعرون بأن اللغة العربية كقطعة أثرية لا تصلح إلا في المتاحف و غير ذلك من الأوهام ، و بات هذا ملحوظا في الجامعات و غيرها من الأوساط التعليمية و الثقافية.



و ليست هذه رغبة في الانغلاق و لا عصبية مقيتة ضد اللغات الأخرى ، بقدر ما هي وقفة مع الذات لإعادة الاعتبار للغة العربية و عزتها بين باقي اللغات ، و ترغيب الجيل الصاعد في لغته بأساليب جذابة للنظر إليها كلغة لها إرث حضاري و إبداع علمي استفادت منه الإنسانية كلها ، و يمكن التعامل بها يوميا في التواصل و الرسائل الهاتفية القصيرة و المعاملات الإدارية لما لذلك من أثر في تقوية الإحساس بالهوية و الانتماء و الشخصية المستقلة ، و التأكيد أن قوة لغة معينة و حضورها رهين بقوة أهلها و ضعفها راجع لضعفهم ، و الهروب من هذا الضعف لا يكون بهذا الحالة المزرية في الوطن العربي من الاستهانة باللغة العربية ، و التقليل من شأنها و عدم الإقبال على القراءة بالعربية ، و قلة التأليف في الحقل العلمي و المعرفي .



للأسف تيار بخس اللغة العربية بدأ يأخذ منحى سيئا بعيدا عن قضية الخلط أثناء التواصل بين الناس بين اللغة العربية و لغة أجنبية ، و تفضيل اللغات الأجنبية في الملتقيات الفكرية و الثقافية و العلمية داخل الوطن العربي رغم عدم مشاركة أجانب أو مشاركة أجانب بعدد قليل .



الأمر أسوأ من ذلك بكثير ؛ ذلك أن هناك تيارا ينطلق في استهانته باللغة العربية من خلفية أيديولوجية تشكك في قدرة لغة الضاد على مسايرة التطور العلمي ، و حتى في تيسير التواصل اليومي بين الناس و يتخذ هذا مبرراً للمطالبة -كما حدث في المغرب - باعتماد اللغة الدارجة (العامية) في التعليم و الإعلام بحجة أنها مفهومة و سهلة على عكس اللغة العربية التي يصفها بالمعقدة .



هذا التيار و بخلفية فرانكفونية يدعو إلى تدريس اللغة الدارجة في المدارس من خلال إقرارها في التعليم العمومي الأساسي مكان اللغة العربية ، و تقنينها بدعوى تجسير الهوة بين اللغة المكتوبة (العربية) و اللغة الشفاهية (الدارجة) و المقصود بالتقنين ، كتابة الدارجة بالحرف العربي لخلق لغة تجمع بين الحرف العربي و النطق ، و تحرير مصطلحات خاصة و معاجم و قواعد و آليات بيداغوجية .



هناك من يقلل من تأثير هذا التيار و مطالبه ، و يعتبرها ضجيجا عابرا مهما علا صوته كما هي الحال بالنسبة لرئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية موسى الشامي ، الذي يرى أن منتقدي اللغة العربية في المغرب و دعاة استخدام الدارجة بدل العربية الفصحى << أقلية فرانكفونية تعبر عن طموحات استعمارية في المغرب لا أكثر و لا أقل >> .



لكن التأمل في المطالب المذكورة يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بضجيج عابر ، بل برغبة في حصار اللغة العربية بكل أبعادها ، و عزل البلد عن محيطه العربي بصراع مفتعل بين الدارجة أو العامية كوسيلة للتواصل اليومي و الشعبي و اللغة عربية كلغة فكر و ثقافة و لغة تعامل إداري ، و هذا موجود في العالم كله ؛ حيث هناك لغة جامعة و هناك لهجة أو لهجات محلية هي مصدر غِنًى ثقافي و إنساني كما هي الحال بالنسبة للمغرب ، فالتعدد اللغوي (العربية و الأمازيغية بمختلف فروعها و الحسانية والدارجة) كانت و ستظل مصدر قوة و ثراء ثقافي عبر تاريخ المغرب .



إن التيار المشار إليه يختلق مع كامل الأسف معركة خاطئة ، و يتصرف و كأنه خارج التاريخ ، ففي الوقت الذي تسارع عدد من الدول لإطلاق قنوات فضائية ناطقة باللغة العربية و آخرها تركيا لمخاطبة الوطن العربي و التواصل معه و تقديم (تسويق) ذاتها له ، نجد بين ظهرانينا من يريد أن يعزلنا عن المحيط العربي لكنهم سيفشلون بكل تأكيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق