الجمعة، يوليو 16، 2010

جذور الإسلام بمنطقة الريف

بقلم : عبد الكريم السكاكي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ظل تاريخ الريف دهورا طويلة مطويا و متناثرا في بطون الكتب القديمة ، ثم انبرت في العقد الأخير طائفة من الباحثين و الدارسين استنطقوا الوثائق القديمة ، و نصوص المخطوطات و المطبوعات . فسلطوا ضوءًا كاشفا على تاريخ الريف و قدموا معلومات و إن لم تكن غزيرة إلا أنها وافية في الدلالة على نشأة الإسلام بهذه البلاد و
ظروف انتشاره و مواقف الأهالي من عقيدته و تعاليمه ، و التحولات التي حاقت بهم من جراء اعتناقهم للدين الجديد ، فلهؤلاء الباحثين الشكر الخالص و الثناء الجزيل على ما بذلوا من جهد ، فسدّوا بذلك ثـلمات شاغرة في ميدان التاريخ الريفي ، فمنهم أستفيد ، و أجلس بين ما كتبوا تلميذا طالبا ، و عنهم أتلقى الخبر.



و من أخبار ما نقلوا إلينا ، أن مدينة غساسة غرب مليلية كانت السباقة لاحتضان دعوة الإسلام على عهد بني أمية ، و كانت ميناء هاما و لا يزيدون على هذا ، لأن الآثار الباقية هناك لا تنجدهم بأكثر من هذا.



هذا عن الجناح الشرقي لبلاد الريف ، أما أول من وصل إلى الريف الأوسط و أدخل الإسلام إليه من الفاتحين المسلمين فرجلٌ يسمى صالح بن منصور استقر بمنطقة تمسمان ، كان هذا الرجل من الصلحاء الذين يصطحبهم عقبة بن نافع في فتوحاته ، كما كان من أصحاب حسان بن النعمان ، و بأمر من حسان توجه صالح إلى الريف و هو يُنعت بالرجل الصالح دلالة على صلاحه و تقواه . خطّ على بعد أميال من تمسمان مدينة النكور و اتخذها عاصمة لحكمه و منها امتدت دعوته إلى شتى القبائل كغمارة و زواغة و صنهاجة و غيرها . فقبِل الأهالي الإسلام عن رضا و طواعية يتعلمونه و يتشربون معانيه في ظل صحبة و حكم هذا الرجل الصالح ، فلما ولي أمر طنجة و ما وراءها من شمال المغرب بما فيها بلاد الريف عبيد الله بن الحبحاب أراد تخميس البربر على أنها فيءٌ للمسلمين العرب ، ففشت الردة و ثاروا على صالح عامله بالريف و استبدلوه برجل آخر ، فازداد تأكدهم بالمقارنة و المقابلة من عدل صالح و صلاح أمره و ظلم الآخرين << فتلافاهم الله بهداه وتابوا من شركهم... واستردوا صالحا >> كما يقول الزياني . لم يكن الإسلام قد تعمق و ترسخ بعدُ في النفوس ، لكنهم باسترداد صالح و بجهود آل صالح و ذُريته في الوعظ والإرشاد ، و بما يخطبونه في الناس و يعلمونهم على مذهب الإمام مالك عاد الإسلام و انتشرت السنة بين أهالي الريف خاصة الريف الأوسط.



التحم هؤلاء الصلحاء و اتصلوا بالأهالي فحملوا إليهم الإسلام غضا طريا ، و التف حولهم الأهالي تعظيما و تبركا و اقتداء بما هم صلحاء ، فتعمق الإيمان في النفوس و تقرر ، حتى كانوا جزء لا يتجزأ في كثير من حملات الجهاد في الغرب الإسلامي ، و لم يسجل التاريخ قط أن الريف في مجموعه تهاون يوما عن الجهاد إذا ما دُعي إليه ، فكأنما الريف بمتطوعيه قلعة للجهاد و الذب عن الدين.



في سنة 230 هـ تعرضت مدينة النكور لهجوم النورمانديين من ساحل الشمال ، و أسروا جماعة منهم فافتداهم عبد الرحمان بن الحكم ، عاودوا الهجوم عام 244 هـ فقاوم السكان و أخرجوهم من البلاد بعد ثمانية أيام و من تلك الفترة بدأت الفكرة المجوسية تغزو بلاد النكور ، و مع بدايات القرن الرابع الهجري استولى الفاطميون على النكور فقضوا على دولة صالح و بنيه.



و ما لبث الأهالي أن قاموا ضد الحاكم الشيعي مصالة بن حبوس بمساعدة الأندلسيين و يرى أحد الباحثين أن الصراع كان دينيا في جوهره و معنى هذا أن سكان النكور و الريف الأوسط رفضوا العقيدة الشيعية ، إلا أن رواسب التشيع و رواسب الفكرة الوثنية و خطر المجوسية غزت البلاد و سكنت العقول ، فتداركت العناية الإلهية الريفيين من هذا الخطر المهدد للأمن و العقيدة فتلافاهم الله برجل أمازيغي هو يوسف بن تاشفين ، فخرب النكور فتهاوت معها أطلال الوثنية و معالم المجوسية أن تسري إلى القبائل الأخرى . فحمى الله تلك الديار من كل نحلة فاسدة ، و عادت الغيرة على الدين و لامس الإيمان القلوب فأحياها من جديد ، و لعل هذا ما جعل الريفيين يشاركون مع ابن تاشفين في معركة الزلاقة عام 479 هـ كما يُستنتج من الأخبار و نصوص التاريخ.



كان أبو داود مزاحم أول رجل صوفي عرفه المؤرخون في منطقة الريف ، كان مريدا لأبي مدين الغوث ببجاية ، ثم رجع إلى بلده تمسمان ، فبنى هناك على ساحل البحر رابطة كان يتحنث فيها هو و أصحابه و تلامذته ؛ << فإلى هذا الشخص يرجع الفضل في إشعاع الحركة الدينية منذ النصف الثاني من القرن 6 هـ/12م ... و لم يقتصر هذا الإشعاع على جبال تمسمان فحسب بل تجاوزه إلى القبائل التي نحن بصددها . و نجد أول هذا التأثير الديني في تلمذة الحاج حسون الأدوزي على أبي داود الذي قام بنفس دور شيخه بجبال بقيوة حيث تمكن من تركيز نفوذه الديني بتأسيس رابطته بقرية أدوز ، التي أصبحت المركز الرئيس لتلقين التربية الدينية . و تمكن تلامذة الحاج حسون و خلفاؤه من رعاية الحركة الدينية بالقبيلة ، و تأسيس فروع لها بجهات بقيوة خاصة بالهضبة المحيطة بمرسى بوسكور ، التي يوجد بها رابطة تدعى أم أيمن ( للا ميمونة ) ؛ و التي ظلت محطة بقيوة الدينية خلال القرنين 6هـ و7هـ... و هناك بعض الأسماء الأخرى التي كان لها نفس الدور بقبائل بني كميل و بني بوفراح منذ بداية القرن 7هـ >> ( الريف قبل الحماية لعبد الرحمان الطيبي ص221 ) .



وطوال العهدين الموحدي و المريني كانت رباطات الصالحين تذكي روح المقاومة ضد المسيحيين خاصة في سواحل المزمة وبادس والريف الشرقي (ن- م ص40 ) .



و هؤلاء الصلحاء كانوا صوفية يتلقون التربية الروحية بين يدي أشياخهم، هم وحدهم من حافظ على الإسلام في بلاد الريف تربية و تعليما خاصة في ظروف عصيبة كانت البلاد فيها محط هجمات المسيحيين من سواحل الشمال ، و توغلهم في الداخل ينهبون ويغتالون و ينشرون الرعب بين الأهالي ، فهل نحن مدينون لجهود أولئك المتصوفة والصلحاء ببقاء الإسلام بديارنا إلى هذا العهد؟



والجواب أن إسلامنا مستفاد من بركات جهودهم فهُم من كانوا فقهاء و خطباء على المنابر يعلمون الناس و قدوات يربُون بالقدوة و المثال و ناهيك بأبي داود وإسحاق بن مطهر المعروف بالأعرج من فقهاء القرويين و أصله من بني يملك ، فقد كانت لهما الحظوة والمكانة لدى أمراء الموحدين يتواضعون لهما ويرجون بركتهما..



وكادت الدعوة الشيعية أن تعصف مرة أخرى بسكان الريف الأوسط أواخر القرن السابع على يد الداعية الفاطمي العباس بن صالح الذي استباح الحرمات و سبى و قتل لولا لطف الله و عنايته إذ قيض له جيشا من الوطاسيين فهزموه فصلبت جثته في باب المزمة عام 685 هـ . و يشير البادسي الذي روى الخبر في المقصد الشريف إلى جهود الشيخ علي بن مخوخ التوزيني و غيره في النصح و التوجيه وتحذير الناس من دعوة الفاطمي و ذلك ردا لكل رأي دخيل فاسد . وانضاف إلى جهود هؤلاء الصالحين في التربية و التوجيه توافد عدد من أسر الشرفاء من ذرية الإمام إدريس الأكبر خرجوا من فاس قاصدين بلاد الريف فانتشروا بين مختلف القبائل ، و أشهرهم شرفاء إمرابطن ( المرابطين ) بتماسنت و جبل حمام و المرتفعات ، و العمرانيين الذين استقروا ببني بوفراح و صنهاجة و حوز بادس وبقيوة ، و المسناويين الذين نزلوا ببني حذيفة ، و هذه أمثلة لا أريد بها إحصاء الشرفاء و لا حصر الأماكن.



التحم هؤلاء و اختلطوا بالأهالي كما التحم الصلحاء بهم في عهود الإسلام الأولى فامتدت إليهم أنوار النبوة و الهداية و ملأتهم هيبتهم لما يرون من تبتلهم و إقبالهم على الله ، فأحلوهم محل التعظيم و الإكبار بما هم منتسبون إلى الجناب الشريف و سلموا لهم أمورهم في الدين و الدنيا نصحا و توجيها بالحال و المقال، و إصلاحا و رفعا للنزاع و ما يعترض من خصومة و شقاق ، و فصلا في الحكم و القضاء بشريعة الله ، و نشطت الزوايا منذ القرن السابع الهجري و نشأت حولها كثير من القرى و المداشر فكانت الزاوية منطلقا لتوسع العمران و تألف القبائل كما كانت ملاذا للمريدين و قبلة لطلاب القرآن و علومه . كان مشايخ الزوايا الشرفاء مُربين يلقنون مريديهم الذكر و يسلكون بهم طريق التصوف و الزهد و يغرسون في نفوسهم هَمّ الآخرة و الاستعداد لها . و في بني ورياغل لا زلنا نذكر سيدي عيسى و سيدي يوسف و سيدي بوخيار (أبا خيا) أسماءً لامعة في تاريخ التصوف ، و التصوف الريفي خُلوٌ من كل تعقيد يشوب صفاءه، بسيط بساطة الحياة الريفية ، عملي لا نظري ، و زاد من صفائه بُعد البلاد عن الحواضر الكبرى ، فهي شبه معزولة بين الجبال لا تصله شبهة جدل عقلي محدث أو نزغة ثقافة أجنبية دخيلة.



و امتد إشعاع هؤلاء المشايخ إلى خارج بلاد الريف حتى كانوا قبلة لطالبي السلوك الصوفي مثال ذلك ما فعله الشيخ علي بن محمد هاجر من مراكش وحل ببادس و استقر فيها حتى مات و دفن بها.



وقد لاقى أهل المنطقة خلال عهدي السعديين و العلويين ضروبا من العسف و الظلم بحقهم رغم استماتتهم في الدفاع ضد هجمات الإيبيريين المغيرين على بعض الجزر ، لم يكن شيء يبعدهم عن دينهم . جهاد طويل كان الإيمان باعثهم فيه و حاديهم . و إن ظهر منهم خائن خان و تدسس لعدو فتلك استثناءات لا تضير و لنقبل تاريخنا كما هو . نقرأ نصين يُنِمّان عن نظرة الريفيين كيف كانت وذلك حين احتلت حجرة النكور عام 1673 م : << بقيت دار إسلام حياة مولانا الرشيد و نحو عامين من "خلافة" مولانا إسماعيل إلى أن باعها دح الخطيب كما روي عن كثير من أهل الريف ... و نازلها النصارى في المراكب و السفن و حاصروها >> (1) ؛ و << احتل الإسبان البرج المقابل لحجرة النكور رغم المقاومة الشديدة التي أظهرها السكان بينما الباشا قائم في تلا بادس يستعد للرحيل عن الريف إلى مراكش... واتهموه بأنه باعه للنصارى وقبض ثمنه >> (2) . المهم في نظرنا أن السواد الأعظم من الأهالي كانوا ينظرون إلى بلادهم على أنها دار إسلام و كان جهادهم جهاد مسلمين ضد نصارى و لذلك قاوموا جهد مُستطاعهم.



ومن مفاخر ما يذكر للريفيين مُساندتهم لجهاد الأمير عبد القادر الجزائري، فقبلوا دعوته لمّا نادى فيهم حاسة الدين التي تأصلت في نفوسهم و ذكرهم بواجب الجهاد و جزائه العظيم و هو الصوفي الذاكر المتبتل على طريقة شيخه محمد الفاسي الشاذلي ، فأنزل الله نصره على عباده في مواقع كثيرة لكن تقاعس السلطان العلوي آنذاك عبد الرحمان أمام ضغوط الأوربيين ألجأت الأمير للاستسلام لفرنسا عام 1847 م ، فانتهت صفحة من أعظم صفحات الجهاد خلال القرن التاسع عشر الميلادي . و لم يفتّ هذا في عزم الريفيين ، فبعد بضع سنوات كانوا على موعد مع حرب أخرى في معركة تطوان التاريخية فاستجاب الريفيون لنداء السلطان فأرسلت القبائل متطوعين فأبلوا البلاء الحسن و سقط منهم شهداء على أرض المعركة بعدما حققوا انتصارات بهرت السلطان فجعل يكتب إلى السيد محمد أخمليش شيخ الزاوية الخمليشية : << أما تهيئ القبائل للجهاد في سبيل لله فهو المراد و قد أصبت في توجهك معهم و أقدموا على أخينا مولاي العباس أصلحه الله فإنا أمرنا بدفع المؤنة لكم و لجميع من ذكرت من المجاهدين و أوصيناه بالإحسان إليهم >> . كان الوعي العام آنذاك دينيا و هذا ما تترجمه عبارات الجهاد في سبيل الله والاستعانة بشيوخ الزوايا للتأثير على الأهالي لتنبعث إرادة الجهاد . يصف أحد المشايخ من أهل الدار البواعث الدينية للريفيين في حروبهم فقال : << لكن الريف لا يقبل أي اعتداء عليهم لصلابتهم في الدين و صيانة عرضهم من المعتدين >> (3) . ذلك أن الريفيين كانوا دائما في جهاد مع العدو ، و كيف يتوانى عن الجهاد و يتخلف من كان في الدين صلبا و عن عرضه صائنا يقول الشاهد : << و منذ عقلت وأنا أسمع انتصار حملات الريف على الإسبان كلما رام الخروج من أي نقطة من نقط الشواطئ البحرية التي يتأتى منها النزول للبر .. >> (4) . ولم تمض فترة طويلة حتى قام بالريف الشرقي مجاهد آخر محسوب على الصوفية هو الشريف محمد أمزيان قاتلت معه قبائل الريف الأوسط من بني ورياغل و بني بوفراح و غيرها فكبّد الاسبان خسائر فادحة و طارد الخونة و على رأسهم بوحمارة . طبيعي أن نقرأ عن استجابة القبائل لمشايخ الصوفية لأن الدين وحده هو المهيمن آنذاك . كان الولاء للدين يتصدر و يهيمن على كل ولاء آخر ، و كانت الساحة فارغة من أية أيديولوجية . لم يكن أمزيان إذن شهيدا للوعي الوطني كما يروجه البعض ، ذلك لأن دوافعه دينية محضة و هو المتدين العالم بالشريعة صاحب الزاوية القلعية . يقرأ هؤلاء تاريخ أمزيان و غيره بذهنية وطنيي ما بعد الاستقلال ، و هو خطأ شائع لدى الباحثين . استطاع هذا المجاهد إلحاق هزائم فادحة بالعدو قرب مليلية مما اضطر إسبانيا إلى أن تسلك سبيل إغراء القبائل بالمال فنفرت عدة قبائل كانت قد التفت حول أمزيان و شرطت عليها الكف عن مساندته ، فصمدت معه أغلبية الورياغليين الذين كانوا يقاومون كل سفينة تحاول الاقتراب من جزيرتي النكور و بادس . سارع هؤلاء إلى السلطان عبد الحفيظ بفاس لطلب المدد ليقاوموا كل هجوم محتمل ولكن السلطان خذلهم بتوقيع معاهدة 1910 فحصلت إسبانيا بموجبها على امتيازات في المنطقة . واصل الشريف جهاده مع متطوعي الريف الأوسط فحققوا انتصارا عام 1911 م زاد من حنق الاسبان ، فترصدوه في أحد المساجد و حاصروه ، فقاتل حتى سقط شهيدا عام 1912 م . عرفت إسبانيا أن قوة الريف تكمن في توحدهم على الجهاد فسعت إلى تفكيك تلك الوحدة و إضعاف معنويات الريفيين .



صرح أحد الاسبانيين : << كانت الخطة ترتكز على العمل بشكل يصبح معه بنو ورياغل في حالة حرب مستمرة >> . و يصف السيد كوميز خوردانة مهمة فريق أعده لهذه الخطة : << إن هذا الفريق الموجود رهن إشارتي في مجموع أراضي العدو هو الذي يتيح بسهولة تفكيك التكتلات المسلحة التي كانت قد احتشدت في جو حماسي لإبادتنا ، فأعضاء هذا الفريق لابد و أن ينفذوا داخل هذه التكتلات لكي يزرعوا فيها رُوح الهزيمة قبل أن تتعرض لأي هجوم ، و هذا الفريق هو الذي يثير بينها و حسب رغبتي صراعات دامية كتلك التي تمزق مثلا في هذه الآونة قبيلتي بقيوة و بني ورياغل بغية شل الريف >> (5) . و قد نجحت إسبانيا في ذلك فعاد عرق العصبية ينبض في كل قبيلة ففشلوا وذهبت ريحهم أمام مخططات الاستعمار.



الحالة الدينية كانت على حالها القديم ؛ ففي كتاب (حرب الريف التحريرية) جملة من أسماء الفقهاء و الخطباء بمختلف المداشر و القرى يقومون بمهمة الوعظ و الإرشاد و تذكير الناس بدينهم ، لكنهم عزلوا أنفسهم عن ساحة الجهاد فسهل على المستعمر أن ينفخ سُمومه و يبث عملاءه إنجاحا لمخططه . فأصبحت البلاد أحوج ما تكون إلى من يصلح أمورها و يـُذهب عنها دعوى الجاهلية ، وإلى من يتوسط القبائل ليتألف قلوبها و يسمو بها عن الثارات الدنيوية و يوحدهم على كلمة واحدة و وجهة واحدة و هي المهمة التي سيحمل أعباءها و يتولاها سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي . كانت الدوافع الدينية حاضرة بقوة في قومة و نهضة الخطابي و عن ذلك كتب فقرة مهمة الأستاذ محمد العلمي في كتابه (زعيم الريف) أما عن جهوده التربوية فقد بدأ بتأليف القلوب و الصلح بين القبائل ، وتذكيرهم بتاريخهم و كيف كانوا سادة يرهبُ جانبهم ، وبإحياء الشعور الديني في نفوسهم و ربط قلوبهم بالله عز و جل ، حتى صلحت نياتهم فصلحوا للجهاد . و عن المنهاج التربوي كتب المرحوم محمد سلام أمزيان في كتابه ( عبد الكريم و حرب الريف) كما أشار إلى ذلك المرحوم المجاهد محمد عمر بلقاضي في كتابه (أسد الريف) ، والكتابان معلمتان تاريخيتان إذ يسلطان الضوء على هذا المنهاج التربوي و أثره في التغيير و إحراز النصر و الذي يغفل عنه جل الباحثين فهم سجناء التحليل المادي الحداثي . و هذا موضوع يستحق أن يدرس في مقال أو كتيب مستقل و يا حبذا لو يتناوله باحث جاد في أطروحة جامعية مُـفيدة .



استطاع الأمير الخطابي تحقيق مجتمع إسلامي يسوده التكافل و التراحم، أرعب الأوربيين من ظهور دولة إسلامية منظمة في شمال إفريقيا ؛ و نَجِد صدى هذا التخوف في عبارة ليوطي : << إن انتصار الريفيين و تمكنهم من تأسيس كيان إسلامي في شمال أفريقيا سيجعل المشروع الاستعماري في مهب الريح >> . لذا سعت إسبانيا و فرنسا لتحطيم جهود الأمير و قطع الطريق أمام استمرار هذا البناء الإسلامي الضخم ،.و إذا أردنا أن نعرف أسباب انهيار المقاومة الريفية واستسلام الأمير فسنجد ثلاثة أسباب :



1. خذلان السلطان العلوي يوسف للأمير على نحو ما فعل السلطان عبد الرحمان مع عبد القادر الجزائري.



2. نـفور بعض القبائل و خذلانها للأمير استكانة لتهديدات السلطان يوسف الذي أصدر ظهيرا قرأ في المساجد يحذر فيه من مؤازرة الأمير.



3. تواطؤ فرنسا و إسبانيا مع تأييد أوربي و أمريكي للقضاء نهائيا على الثورة الريفية . أجْعلُ هذا السبب آخرَها و أضعَفها فاعلية وتأثيرا بمنطق الدين والقرآن :<< قل هو من عند أنفسكم>> ؛ و بمنطق التاريخ : إذ تواطؤ القوى الخارجية حصل غير ما مرة و خرج الأمير منتصرا . و قد أفادنا عبر " قناة الجزيرة" رئيس جمعية ذاكرة الريف عمر لمعلم بتصريح للخطابي أنه قال : << الانهزام كان من أبناء جلدتي >> .



هل أثر استسلام الأمير على نفسية و معنويات الريفيين ؟



هذا أكيدٌ ، بل هو طبيعي و كيف لا تتأثر القلوب و تنفعل لحال ومصير رجل هو استثناء بين الرجال لا يتكرر في مآت السنين!.



هل أثر ذلك على إيمان الريفيين و دينهم ؟؟



بقي الإسلام و سيظل ـ بإذن الله ــ الدين السائد في بلاد الريف. و لكن جذوة الإيمان التي كانت تصل المرء بخالقه و تشده لرضاه و تشوقه لقرباه ذبلت و ضعفت ، و جهود الأمير التربوية أضاعها الاستعمار ، و مع ذلك تابعت المساجد و الزوايا دورها في التربية والتوجيه . و مع بدايات "الاستقلال" تغيرت ملامح الحياة العامة وطغت معالم الحياة الأوربية على المظهر العام للبلاد و تزايد الاهتمام بالهجرة إلى الخارج لأسباب اقتصادية ؛ كل ذلك أضعف الوازع الإيماني و صرف النفوس عن الاهتمام بالدين إلى الدنيا و الاستكثار منها . و مع بدايات الثمانينات هجمت على البلاد ألوان من المذاهب و الثقافات ، هزت عقائد الناس و شككتهم في موروثهم من إسلام الآباء و الأجداد . ظهرت الفكرة السلفية الوهابية و بنى أصحابها مذهبهم على نقض و هدم ما عند الآخرين ، فبدأت الأسواق تغزوها الكتب والأشرطة المبدعة المشككة الغارسة في النفس حب الجدل والتميز عن الأقران ، بما ظنوه وحده حقا ناسخا لكل باطل يجب إزالته، وامتد هذا المذهب فملأ الآفاق و انتسب إليه العامة و الأغمار و كل ذي حظ من الفقه و الثقافة جد قليل ، فوجه حياتهم و أصبح الاهتمام بجزئيات من الدين على حساب كلياته ، و بسننه الحرفية على حساب مقاصده العليا و بظاهر أحكام الجوارح على حساب أعمال القلوب الباطنة . فضعُف الوازع الإيماني و فـسدت كثير من العلاقات كان التكافل و التراحم أساسها . و مقابل هذا التيار كانت هناك أيديولوجية توطدُ نفسها شيئا فشيئا داخل أسوار الثانويات والإعداديات : إنها الاشتراكية الماركسية. سرت عدواها إلى التلاميذ و أصبح الناطقون باسمها و المتشبعون بأفكارها و مقولاتها هم الموجهون ، رغم قلة عددهم لحركة التلاميذ من مظاهرات و احتجاجات و مطالبات، و تشربت النفوس المتأثرة الغضة روح الإلحاد و التنكر للدين ممزوجة بلغة الثورة على الظلم . حتى إذا دخلوا إلى أقسام التاريخ والفلسفة وجدوا من يحدثهم عن دور الاشتراكية في الإطاحة بالنظام القيصري الروسي المستبد ، فيزدادون تعلقا بها كما يجدون الحاضن المُربي لفكر الإلحاد و التشكيك بأثر الدين في توجيه الحياة المعاصرة: أستاذ الفلسفة المبجل عندهم المغرور بمادته و التفاتاته ووساوسه الذهنية..



الوهابية سطحت الإيمان و أضعفت وازعه ... و الماركسيون ، رغم قلتهم و نفور الناس منهم ، أفشوا عدواهم في كثير من النفوس الطالعة فأجهزوا على إيمانهم.



ذلك ، و للتيار الأمازيغي حضور قوي في الساحة العامة ، وموقف أصحابه من الإسلام موقف الخصم الناظر لخصمه الذي احتل فكره و زاحم ميدانه ، لذلك فالنضال الأمازيغي الناشد لإحياء تراثه يسعى لربط الأذهان بتاريخ ما قبل "الغزو الإسلامي" بزعمهم و تغيير الولاء القديم للدين إلى الولاء للغة و التراث الغابر و لرموزه الخالدة ، هي قومية عصبية أماتها الأمير الخطابي و يريد المناضل الأمازيغي إحياءها من جديد ، و مع ذلك يتباهى بانتسابه للأمير الخطابي و يزعم أن نضاله استمرار لنضال الأمير.



ماذا بقي من التراث الخطابي عند مناضلي الحركة الأمازيغية ؟



و هل الروح و القيم الخطابية محل نظر و اعتبار عندهم ؟



لا شيء من ذلك عندهم لأنهم يعلمون أن الروح الإسلامية هي التي جعلت من الخطابي بطلا مجاهدا ، و لاشيء من تلك القيم سعوا لتجديدها لأنها مربوطة إلى الإسلام بحبل متين.



و تبقى أغلبية الساكنة الريفية مسلمة رغم كل ما هب عليها من رياح التغريب و مظاهر الفتنة لا يقبلون مساسا بعقيدتهم وبمقدسات الإسلام ، و هذا ما كشفت عنه التظاهرة الضخمة بالحسيمة ردا على فرية الصحافة الدنمركية في حق الرسول الأعظم صلوات الله عليه.



الآن.. يمارس الريفيون دينهم على إيقاع صحوة إسلامية صاعدة و تبقى هذه الصحوة في حاجة إلى ترشيد و توجيه حتى تثبت و تنبت نباتا حسنا لتؤتي أكلها بإذن ربها و هذا يحتاج إلى تعميق روح الإيمان في النفوس ، و روح التطلع إلى مقاماته العالية و ذلك بالتربية الروحية: التربية التي تصل فطرة الإنسان بخالقه تقربه إليه و تحببه و تشوقه إليه سبحانه .. فعسى ذلك يكون و عسى الأجيال الصاعدة أن تُقبل و تشارك فيها..



و الحمد لله رب العالمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــ م-س 154.
(2) ــ ن- م، ص: 156.
(3) ــ الظل الوريف لأحمد سكيرج ص2.
(4) ــ - م، ص 2.
(5) ــ الريف قبل الحماية.. ص 376.

هناك تعليق واحد:

  1. مقال طغت فبه سمة الذاتية على التحليل الرصين

    ردحذف