الأحد، يوليو 18، 2010

المسألة اللغوية بالمغرب


بقلم : الدكتور أحمد الريسوني
( 03 شتنبر 2010 ـ عن موقع حركة التوحيد و الإصلاح )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من يتابع المسألة اللغوية و السياسة اللغوية بالمغرب الحديث ، و الجدالات المتواصلة حولها ، منذ استقلال المغرب و إلى الآن ، يحس أنه أمام بلد ما زال يبحث عن هوية ، و أنه يعيش مخاض ولادة و تَشَكّل ...




فمِن فرْنَسَةٍ شبهِ تامة للغة الإدارة و التعليم ، إلى محاولات متعثرة للتعريب ، إلى نصف تعريب أو رُبع تعريب ، إلى الانقلاب على التعريب و نِصفِه و رُبعِه ، إلى مناهضة صريحة لكل خطوة جديدة نحو التعريب ، إلى التعهد بإنشاء (أكاديمية اللغة العربية) ، إلى القرار السري بمنع إقامتها ، إلى محاولة فرنَسَة اللغة والكتابة الأمازيغية ، إلى التخلي عن كتابتها بالحرف العربي الذي كتبت به منذ قرون و قرون ... إلى ظهور نابتة جديدة من دعاة ترسيم العامية و إحلالها محل اللغة العربية ، إلى غير ذلك من وجوه التخبط و الاحتيال و الالتفاف و محاولات تشكيل جديد لهوية المغرب ، أو على الأقل جعله بدون هوية ...



و كل هذا يستمر و يتكرر منذ نصف قرن و يزيد ، و هو زمن أكثر من كثير لحسم هذه القضية ، فكيف و هي محسومة شعبيا و تاريخيا و دستوريا ؟؟!!



لو أردنا قرارات سياسية تتخذها الجهات الممثلة للأمة ، أو الجهات ذات القرار و التنفيذ ، فهي أسهل شيئ في هذا الباب . و لكن ها هنا مكمن الداء!



و لو أردنا دراسة الموضوع دراسة علمية استراتيجية شاملة ، يتولاها علماء خبراء مختصون أكفاء ، تنـتهي إلى نتائج و توصيات موضوعية ، فهذا يمكن إنجازه في سنتين أو ثلاث ، فنعتمد ذلك ، ويكون منهجنا علميا و اختيارنا علميا.



و لو أردنا الرجوع إلى الشعب صاحب السيادة كما يقال ، و كما ينص الفصل الثاني من الدستور المغربي ، فالاستفتاء ممكن في كل وقت و حين ، و يمكن أن نُعِدَّ أسئلته و نقاشاته و حملته الدعائية و كل متطلباته في سنة و سنتين على أبعد تقدير.



فلماذا لا نستفتي الشعب :



• ما هي اللغة التي تختارونها لغة رسمية للبلاد و مؤسساتها الرسمية ؟



• هل تريدون لغة رسمية ثانية أو ثالثة ، و هل هي هذه أو هذه أو هذه ؟



و إلى أن يقع شيئ مما سبق ، فالمعول عليه الآن هو الدستور ، الذي نص في صدارته على أن << المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ، لغتها الرسمية هي اللغة العربية >> . و هذا النص موجود في جميع الدساتير التي عُمل بها بالمغرب . و بناء عليه فكل تهميش للغة العربية ، و كل إضعاف لها، و كل تعطيل لها أو تفضيل لغيرها عليها في مؤسسات الدولة و معاملاتها ، فهو تعطيل و خيانة للدستور و للاستفتاءات الشعبية المتعددة التي أقرته.



و أنا لا أعلم الآن أحدا في المغرب يعترض أو يتحفظ على تعليم اللغات الأجنية و استعمالها و الاستعانة بها ، عند الحاجة ، سواء في التعليم و البحث العلمي ، أو في غير ذلك من المجالات . و لكن هذا كله لا يجوز أن يكون متقدما ولا مفضلا على لغة البلاد الرسمية ، و لا على حسابها . و هذه من البدهيات الوطنية في كل بلد يحترم نفسه و يؤمن بذاته .



العربية والأمازيغية شقيقتان لا ضَرَّتان



و أما اللغة الأمازيغية فمما لا شك فيه أنها أولى بالعناية و المكانة من أي لغة أجنبية . و من حقها على المغاربة و على الدولة المغربية تمكينها من المكانة اللائقة بها ، و كذلك تطويرها و تأهيلها ، لتكون وعاء آخر لشخصية المغرب وثقافته ، و لتكون أقدر على أداء وظائفها الوطنية بشكل متواصل و متنام.



و ليس في هذا أي تحفظ أو تردد أو إشكال ، و لكن المشكلة في بعض مَن يريدون افتعال خصومة أو معركة أمازيغية مع اللغة العربية و مكانتها الشعبية والدستورية . فالحقيقة التاريخية و المصلحة الوطنية تفرضان أن تكون الأمازيغية والعربية شقيقتين لا ضَرَّتين كما يتصورهما البعض . و هذا يقتضي العمل على تصحيح الخطأ الجسيم الذي تمثل في التخلي عن كتابة الأمازيغية بالحروف العربية و الانتقال إلى ما سمي بتيفناغ . و هذا يستدعي توضيح أمرين مهمين :



• الأمر الأول : هو أن كتابة اللغة الأمازيغية بالحروف العربية ، هو أقرب طريق نحو تقويتها و تعميمها على كافة المغاربة بسهولة وتلقائية . ثم هو الأمر الذي ارتضاه الأمازيغ و عملوا به على مدى القرون الماضية ، و كان ذلك بتلقائية بعيدة عن الحسابات النخبوية الإديولوجية ، التي تتحكم في الموضوع اليوم . كما أن كل حرف غير الحرف العربي يستعمل لكتابة الأمازيغية ، سيشكل قطيعة مع التراث الأمازيغي المكتوب بالحرف العربي ، بينما الكتابة بالحرف العربي تعزز و تنمي الوحدة الوطنية و الأصالة التاريخية ، و تسهل توسيع الخريطة الجغرافية و الديموغرافة لاستعمال اللغة الأمازيغية .



• الأمر الثاني : هو أن اللغة - أي لغة - تتمثل حقيقتها و شخصيتها أساسا في نطقها لا في كتابتها . فالوجود الحقيقي للغة هو اللسان وليس الخط ، و لذلك يعبَّـر عن اللغة باللسان و الألسُن و الألسِنة ، فنقول : اللسان العربي ، و اللسان الأمازيغي ، و اللسان الفرنسي ... و على هذا الأساس سمَّى ابن منظور موسوعته اللغوية (لسان العرب) . و في القرآن الكريم << وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ >> (الروم ـ 22) . و من هنا أيضا يعبر عن العلوم اللغوية و عن الدراسات اللغوية باسم : الألسُنية ، أو باسم اللسانيات . فاللغة هي اللسان والنطق ، لا الكتابة و الخط .



و ها هم مئات الملايين من المسلمين غير العرب ، من أمم ذات حضارة وعراقة ، و لها مكانة دولية اليوم أرفع مما للعرب ، يكتبون لغاتهم بالحرف العربي ، في الهند و باكستان و إيران و غيرها ... و لا يمثل ذلك عندهم أي مشكلة أو منقصة أو عائق .



و على كل حال فتصحيح الغلط ما زال مطلوبا و ممكنا ، و الخطب فيه يسير. و المصلحة الوطنية و مصلحة اللغة الأمازيغية تستدعيان هذا التصحيح ، و لو بعد إعادة دراسة المسألة دراسة علمية موضوعية .



البديل العامي للغة العربية ؟!



كما أشرت سابقا و كما هو معلوم ، انبعثت مؤخرا دعوات و مبادرات عديدة ترمي إلى استعمال اللهجة العامية و ترسيمها بديلا عن اللغة العربية ، بحيث تصبح اللهجةُ العامية هي لغة التعليم و التأليف و الإعلام و الوثائق الإدارية... و هذه فكرة قديمة يتم إحياؤها و محاولة فرضها من حين لآخر ، في هذا البلد أو ذاك من البلدان العربية . و قد عرفت هذه الدعوة سجالات ساخنة بين بعض المفكرين و الأدباء المصريين أوائل القرن العشرين .



ولعل مبتكرها و أقدم دعاتها هو المستشرق الألماني الدكتور "ولهم سبيتا" ، الذي عاش بمصر ، و درس العاميّة المصرية ، و عايش حركة الإحياء والنهوض التي كانت تعتمل داخل مصر ...و في سنة 1880م ألّف كتاباً سمّاه (قواعد اللغة العامية في مصر) ، زعم فيه أن النهضة العلمية المصرية متوقفة على التخلص من اللغة العربية واعتماد العامية ...



ثم حمل الراية من بعده المهندس الإنجليزي المبشر "وليم ولكوكس" ، الذي كان مهندساً للري . فقد ألقى محاضرة و نشرها في مجلة الأزهر سنة 1893م ، أعلن فيها أنَّ الذي يؤخر المصريين عن الاختراع و التقدم العلمي هو استعمالهم للغة العريبة الفصحى . و لكنه بدل أن يعلم المصريين هذه الاختراعات أو يكتب شيئا عنها بلهجتهم العامية ، ترجم لهم أجزاءً من الإنجيل إلى ما سماه اللّغة المصريّة ، أي العامية المصرية .



وقد كان الكاتب المصري الشهير سلامة موسى من المعجبين بدعوة "ولكوكس" والمتحمسين لترويجها و الدفاع عنها ...



بعد "ولكوكس" حمل الراية أحد القضاة الإنجليز بمصر و هو "سلدن ولمور" فألّف سنة 1901 كتاباً آخر في الموضوع سماه (العربية المحليّة في مصر) ، دعا فيه إلى اتخاذ العاميّة لغة أدبية ، محذرا من أننا إن لم نفعل << فإنَّ لغة الحديث العاميّة و لغة الأدب ستنقرضان وستحل محلهما لغة أجنبية نتيجة الاتصال بالأمم الأوربية >> .



ثم أضاف فكرة جديدة أخرى وهي أن << خير الوسائل لتدعيم اللغة العاميّة هي أن تَـتخذ الصحف الخطوة الأولى في هذا السبيل ، و أنها ستحظى بعون من أصحاب النفوذ ..>>.



لست أدري هل اكتشف بعض الصحفيين بالمغرب فكرة "سلدن ولمور" بعد قرن من إطلاقها ؟ أم أن هناك "ولموريين" آخرين من أصحاب النفوذ ، ما زالوا يروجون الفكرة و يمدونها بالعون المطلوب ؟



من الحجج التي يتذرع بها أنصار "العامية البديلة" ، هو أن كل الناس سيفهمونا و يتفاهمون بها ، و يقبلون على القراءة و التعلم بها ، لأنهم أصلا يتحدثون بها منذ ولادتهم . و بناء عليه كان المفروض أن المطبوعة التي تكتب الآن بالعامية المغربية سيكون قراؤها بالملايين أو نحو ذلك ، و أنها ستسبب كسادا سريعا للصحف و المجلات "النخبوية" المكتوبة بالفصحى ، و لكن المفاجأة هي أنها – و رغم بهارات الإثارة فيها – تظل هي الأقل مبيعا و الأكثر خسارة في سوق الصحافة المغربية . فهل يستطيع صاحبها أن يجيبنا (نيشان) عن مبيعاته وخسائره ، و كيف يعوض الخسارة و يحصل على الربح ؟؟



بالمقابل نجد على سبيل المثال شبكة (الجزيرة) أحدثت عدة قنوات خاصة بالرياضة ، و كلها ناطقة بالعربية الفصحى. و الرياضة كما هو معلوم يتابعها العامة و الخاصة ، و يتابعها من غير المثقفين أضعاف من يتابعونها من المثقفين. بل حتى قناة (الجزيرة للأطفال) ، وقناة (الجزيرة براعم) ، التي تخاطب ذوي الخمس سنين و من دونهم ، تستعملان الفصحى بصفة كاملة ، و مع ذلك فهذه القنوات يشاهدها و يتابعها الملايين ، بل يشاهدها في الساعة الواحدة مئات الأضعاف ممن يشاهدون قنوات أخرى تستعمل العامية ، و يشاهدها في الدقيقة الواحدة أكثر ممن يقرأون (نيشان) منذ صدورها و إلى الآن ...!!!



و الذي لا شك فيه - وإن كان بحاجة إلى بحث و بيان - هو أن عامة الناس في المغرب ، كما في عموم الوطن العربي ، يفهمون الفصحى أكثر مما يفهمون اللهجات الخارجة عن مناطقهم و مدنهم و قراهم . و من الطرائف التي لا أنساها ، أن جدتي لأمي ( و هي جبلية من قبيلة سُماتة ) ، و جدتي لأبي ( وهي عْروبية من قبيلة الخلوط ) ، كانتا - رحمهما الله – إذا تحدثتا لا تكاد إحداهما تفهم شيئا مما تقوله الأخرى ، و بين قريتيهما أقل من عشرين كيلومترا . و قد كانت و الدتي هي التي تترجم بينهما ، لكونها تعلمت اللهجتين معا !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق