الأربعاء، يوليو 28، 2010

اللغة العربية بين الدفاع و الهجوم محاولة للفهم

بقلم : مصطفى هطي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاد في الآونة الأخيرة الجدال الدائر في المغرب حول اللغة العربية و ما يتصل بعلاقاتها مع اللغات الأخرى سواء الأجنبية منها أو المحلية و خصوصا الأمازيغية ليظهر مع هذه الجدالات في الحقل المغربي العام من يدافع عن العربية انطلاقا من معطيات واقعية ، و من يتحامل عليها و يهاجمها و يتهمها بالقصور والعجز عن
مواكبة العصر ، بل و الدعوة إلى تشجيع اللغات الأجنبية و اللغة العامية على حساب اللغة العربية الفصحى . و يبدو أن الإشكال ليس كما يعتقد للوهلة الأولى أنه جدال علمي حول إمكانية مواكبة اللغة العربية للعصر التكنولوجي و كفى ، بل إن الإشكال أعمق من ذلك بكثير .



إن قضية اللغة العربية و علاقاتها بباقي اللغات في المغرب لها امتدادات عميقة تتصل بالهوية الوطنية و الايدولوجيا و السياسة و الاقتصاد و التركيبة الاجتماعية و غيرها من المجالات التي تتصل باللغة عموما . و يمكن القول إن مشكلة اللغة العربية ترتبط في العمق بالسياسة العامة المفتقرة إلى الوضوح والجرأة و التخطيط و التدبير و الإرادة السياسية للنهضة باللغة العربية ، و هذا ما استغله البعض ممن يمثل نفسه و يعتقد أنه يمثل المغاربة ليتهجم على اللغة العربية .



فعلى مستوى الهوية فان المغرب و منذ اثني عشر قرنا و نيف و هو دولة قائمة على الإسلام الذي اعتنقه المغاربة الأمازيغ عن طواعية و دون إكراه ، وذلك بعد أن قاوموه في البداية اعتقادا منهم أن من جاء به غزاة مثل الروم والبيزنطيين . و منذ وضحت الصورة لهم و تصحح اعتقادهم ؛ أصبح الإسلام العنصر المؤثر و الحاسم في تكوين الإنسان المغربي و صياغة شخصيته ، كما شكل وعيه و زاوية إدراكه للكون و الوجود .



و اللغة العربية جزء هام في تشكيل هذه الشخصية المغربية و طرق تفكيرها ، و هذا يرتبط بكون اللغة العربية لغة القرآن و السنة و لغة التعبد وبالتالي اللغة المؤهلة لفهم الإسلام فهما عميقا . و لعل هذه الخاصة المميزة للغة العربية هي ما جعلت الأمازيغ يقبلون عليها و يتعلمونها دون تمدرس في المدرسة الرسمية . و نكاد لا نجد في المغرب أمازيغيا من أجدادنا لا يتحدث اللسان العربي سواء كان متعلما أو لم يدخل المدرسة قط ؛ فحتى المناطق التي لم يكتب لأمازيغييها التعلم فإنهم يتحدثون العربية بالاحتكاك مع من يتكلمها دون إحساس ــ كما يدعي البعض اليوم ــ بتهميش أو عنصرية أو عداء بين لغة وأخرى ، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى الزواج و بناء الأسر بين العرب و الأمازيغ (لسانا) كما حدث مع أعلى هرم في دولة الأدارسة المولى إدريس عندما تأسست المملكة .



أما على المستوى الأيديولوجي ، فيبدو أن نخبة "مغربية" علمانية ، أوبالأحرى لا هوية لها ، ترى في كل ما يرتبط باللغة العربية و في كل ما يربط الإنسان المغربي بالإسلام و بأصالته أمر يجب عرقلته و الوقوف في وجهه و لو تعلق الأمر بأحد مكونات الهوية الوطنية و هو اللسان العربي الذي هو في كل الأحوال ليس محصورا في كونه لغة القرآن فحسب ، بل لأن اللغة العربية لغة تواصل تحمل حضارة عريقة و قيما أصيلة تبلورت في اطار الثقافة الإسلامية فضلا عن أنها شكلت هوية المغاربة و طرق تفكيرهم . و نعتقد أن هذه النخبة تتبع أساليب ممنهجة و تعمل "بوعي" و بإصرار و ترصد بهدف الوقوف في وجه اللغة العربية ، لذلك لا يُفوِّت هؤلاء فرصة إلا و اتهموا اللغة العربية بالقصور والعجز عن مواكبة التقدم العلمي و التكنولوجي و الاقتصادي . و نكاية باللغة الفصحى تجد هؤلاء يشجعون العامية شفاهة في برامج تلفزية و إذاعية ، و كتابة في مجلاتهم و جرائدهم و يدافعون عنها لتحل محل الفصحى . و على مستوى التركيبة الاجتماعية تلتقي النخبة العلمانية مع فئة اجتماعية كانت ضحية تهميش اللغة العربية في أسلاك التدريس ، فوجدت نفسها مفروضا عليها دراسة الطب والاقتصاد و كل التخصصات العلمية باللغة الفرنسية بل حتى بعض التخصصات في العلوم الإنسانية كعلم النفس و علم الاجتماع و الفلسفة . و هؤلاء رغم غياب الجانب الايدولوجي عندهم حينما يدافعون عن اللغة الأجنبية فإنهم ، و لما سبق ذكره ، لا يستطيعون التحدث باللغة العربية بل لا يتصورون - جهلا منهم - أنه بإمكان هذه اللغة أن تكون لغة الطب و الاقتصاد و التجارة و غيرها ، بل أكثر من ذلك أصبحت اللغة الفرنسية عند هؤلاء جزءا من السلوك الاجتماعي و تعبيرا عن "ثقافة راقية" مرتبطة بمستوى معيشي يصنف أصحابه ضمن الفئات الغنية . يتمظهر ذلك في الأحياء الراقية بالمدن و التي ينظر قاطنوها بازدراء لمن لا يتواصل بالفرنسية .



و الحال أن ذلك الاتهام الموجه للغة العربية المتعلق بالقصور و العجز بعيد كل البعد عن الموضوعية و العلم و الواقع و يكفي أن نستدل في هذا السياق بما حققته سوريا على مستوى التدريس باللغة العربية بفضل السياسة اللغوية السليمة، إذ إن العلوم تدرس باللغة العربية الفصحى بمفاهيمها و مصطلحاتها .



أما على المستوى السياسي فيمكن أن نتحدث عن غياب إرادة سياسية حقيقية للارتقاء باللغة العربية و إعطائها مكانتها المستحقة حتى تكون رائدة في مجال العلم و التكنولوجيا و الاقتصاد . فحتى الإجراءات الفوقية التي حاولت حكومتا اليوسفي و عباس الفاسي اتخاذها عبر القوانين التي تروم جعل اللغة العربية لغة المراسلات الإدارية لم تجد طريقها للتطبيق بسب غياب هذه الإرادة السياسة ، كما أن مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية لا زال يراوح مكانه و لم يسلك بعد الطريق . هذا إذا سلمنا أنه بهذه الإجراءات يمكن أن ننهض باللغة العربية لكن الأمر أعمق من ذلك . إن الارتقاء باللغة العربية لا يمكن أن يتحقق بقرار فرضها أو إنشاء أكاديمية خاصة بها فحسب ، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى رؤية استراتجيه تعطي البحث العلمي ما يستحقه باللغة العربية حتى تكون لغة إنتاج و إبداع في العلوم الحقة و الإنسانية.



و نرى أن هذا السبيل هو الكفيل للإرتقاء باللغة العربية إلى مصاف اللغات الأكثر تداولا خصوصا و أن جميع الشروط متوفرة من حيث عدد الناطقين بها وتوفر سوق عربية واسعة لتسويق الإنتاج و الإبداع في مرحلة أولى ثم تعميمها عبر تعليمها و تعلمها لغير الناطقين بها سواء من أجل اقتناء المنتوج أو الاطلاع على الحضارة الإسلامية فضلا عن كونها لغة الوحي و التعبد.



وبالعودة إلى الجدال المحتدم حول اللغة العربية و علاقتها باللغة الأمازيغية و اللغات الأجنبية ، فان النظرة الضيقة التي ينظر بها البعض إلى اللغات تجعله يتحدث عن لغة باعتبارها عدوا للأخرى ، بل و يذهب البعض أكثر من ذلك عندما يروج خطابا يذكي النعرات القبلية و العنصرية و العرقية عبر تصنيف المغاربة إلى عرب و أمازيغ و يصور العرب مستعمرين !.. في حين أن الواقع أبعد عن ذلك بكثير .



فعلى المستوى الشعبي لا نلمس مثل هذه العداوة بين اللغتين بل إن الامازيغ – كما سبقت الإشارة – يقبلون على العربية و العرب يتزوجون من الأمازيغ و العكس صحيح . ثم إن هؤلاء الذين يتحدثون بهذا التقسيم العرقي الذي تنبعث منه رائحة الميز و الفتنة ، ليس لهم حجة علمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها في تقسيم المغاربة إلى أمازيغ و عرب ؛ و كل ما يستند إليه هؤلاء هو أن من يتكلم اللسان الأمازيغي فهو من أصل أمازيغي ، و القاعدة نفسها تنطبق على من يتكلم اللسان العربي !.. و بناء عليه فان تحديد الأصل استنادا إلى العرق غير وارد و غير ممكن و بالتالي يصبح التقسيم مبنيا على اللسان ، و نحن نعلم كم من قبائل أمازيغية عرقا عربية لسانا ، و كم من قبائل عربية عرقا أمازيغية لسانا .



و نؤكد مرة أخرى أن إشكالية العلاقة بين اللغات في المغرب تعود في جوهرها إلى انعدام سياسة لغوية دقيقة و منظمة لطريقة و مراحل تعليم و تعلم اللغات ، لذلك نرى أن الأمر يتطلب وضع استراتجية وطنية شاملة تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الارتقاء باللغة العربية و جعلها لغة العلم ، و بالموازاة مع ذلك لابد من الاهتمام باللغة الأمازيغية و تدبير طريقة تدريسها بحيث تبدأ في الجامعات والمعاهد لتكوين أطر قادرة على تدريسها في المراحل الأولية وفق عملية إقراء علمية.



ثم تدبير الحاجة الملحة إلى تعلم اللغات الأجنبية و إنشاء معاهد للترجمة كفيلة بجعلنا على دراية بالتطورات التكنولوجية و العلمية . أخيرا لا بد من الإشارة إلى أن نجاح مثل هذه السياسات التدبيرية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أخذت المصلحة الوطنية بعين الاعتبار ، بل أن تكون هي الهدف الأول و الأخير عند الفاعلين الرئيسين بشتى تلاوينهم بعيدا على التصورات الضيقة و الأيديولوجيات المقيتة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق